قرب تلة من تلال مونمارتر، في زاوية من زواياه تنعطف قدماك نحو متحفه، متحف سلفادور دالي، رسام اسبانيا والكتالان، رسام السريالية والنظرية الغرائبية، عبقري هائل الحجم في منحوتاته البرونزية التي تتوسط فضاء المتحف وعبقري هائل بالشذوذ، سينكي عابث بالريشة في ألوانها الأقل، وبالطين وبالجص وبالخشب وبالأدوات والمصادر وبالقيم وبالناس·· أكثر من ذلك ستجده في مهبط التلة المونمارترية وأنت في باريس القادم من قلبك نحوها··· ستنهل حتى الغثيان السارتري من مكونات بيت دالي بفضائه وأدراجه وما يتخلل ذلك من منعطفات ستدخل البيت حرا وتخرج منه مكبلا بأغلال السريالية وأسرارها الخلاقة أو تسقط مغشيا عليك من الفهم واللافهم لكائنات سلفادور دالي غير العاقلة، مثله المشاغبة، المتطرفة، المشغولة بالغريب، كل غريب، دالي بكائناته لم يعمل على وتائر غيره من فناني اسبانيا ممن سبقوه أو عايشوه وبالأخص ميرو وبيكاسو، ليس دالي هو الواقعي، السوداوي، الوردي، الأزرق، التكعيبي الانطباعي، ليس دالي هاوي الألوان يدوخ الفرشاة ببقعة هنا وبقعة هناك وتحت الأحاسيس المتولدة ينام الفنان، لا اشراقات لونية ولا طبع مدرسي ولا سليقة انبعث منها المخرب، الهادم للأشكال، الهادم للصيغ والتعبيرات والمشاهد، مبتكرات كثيرة كانت له وهي لا تسع لا متحفه في كوينكا باسبانيا ولا المتحف النييوركي ولا متحف مونمارتر · أدراج تنزلك إلى عوالمه وعوالمه متآكلة رممها العبقري الشاذ بالأصباغ والجص، المواد الدقيقة من كل شيء إذ راح يجمعها، برونز وزجاج وفلين ومسامير دقيقة وخراطيم فيلة، ملصقات يصل بها الملياردير الفنان إلى خلاصة منتوج سريالية صالح للاستعمال، للزينة وللإثراء السريع، الفرق بينه وبينهم من مرافقي الدرب والدربة أنه ينتمي لروحه، لبشاعته، لفرادته في العيش وأسلوب العيش· الفرق بين سلفادور وكلود مونيه أو ديغا أو دولاكروا أو جياكوميتي ليس في أنهار الإبداع ومصباتها بل في نزعته الناشزة، كان إذ ينشز، ينشز على الجميع فعندما طردوه من المجمع السريالي، قال لأندري بروتون /لا، ذلك لا يهم، فالسريالية هي أنا/، السريالية هي أنا حملة خلدها دالي في مجالسة، في منحوتة من منحوتاته، في كتابيه /يوميات عبقري/ و/في الحياة السرية لسلفادور دالي/، نشأ هكذا تجريبي مع نفسه لنفسه لا ترتهنه النظريات ولا الولاءات الرصينة ولا جماعات الفوضويين ومتملقي الفن والفنانين في البندقية وفي فيييا وفي باريس وحيثما كانوا·· لقد كانت الجماعة /النيوانطباعية لا تنقط بل تجزيء/ وكانت أصباغهم صافية، اللون مفروق عن الشمس والإضاءة مفصولة عن الطبيعة، ولمسة الطبيعة متناسبة مع حجم اللوحة، مع الجماعة هذه زمنا وروحا ظهر ديغا ومونيه وسيساي وهنا قال ما قاله فان غوغ /من الضروري المرور بالانطباعية كما المرور سابقا بمحترف باريسي/ والحكاية هنا تبدأ مع واحد من أمثاله فالأسلاف اجتهدوا واشتغلوا وتواصلوا في الأكاديميات وفي المحترفات وفي المعارض بدون نقلات متوحشة وغزوات بربرية، لكن دالي كان يترك الدخان والفحم ورائحة المال معه ووراءه، حرر المخيلة التشكيلية من رومانسيتها ومن أفكارها المدرسية، عمل على التكعيبية فطورها، وعلى السريالية فصارت كأنها هو، جاوز قبل ذلك الدادائية والمستقبلية مع انحياز صرف إلى اللاشكل·· وطلع علينا بالغرابات كلها، بالشذوذات كلها·· يؤدي البحث في تفكيراته اللونية والنحتية مؤدى التفكير في اللامألوف، الأزلي، وغير الأزرق ذلك الذي ينشط، يبعثر، يخرب، يهلك، يمحق مخيلية الرسام، النحات، المصور دالي، سيال متحرك من أمواج لا تعمل وفق خصيصة السابقين واللاحقين، لا يتركك انطباعيا، أو حساسا، أو رومانسيا، مع دالي سلفادور يجب أن تكون مثله حتى تفهمه واحذر أن تكون كقوس قزح أو كفان غوغ ولا كهنري لوتريك الذي قال يوما /حاولت تأدية الصح، لا المثالي/· في أحد الأيام دخل إلى قاعة النحت في الأكاديمية وبدأ يفرغ محتويات أكياس عديدة من الجص في وعاء كبير ويصب فوق الجص ماء غزيرا، ما لبث أرضية القاعدة أن غمرت بطبقة من سائل أبيض بدأ ينساب إلى خارج القاعة حتى وصل السيل إلى قاعة الدخول وبدل أن يهتم دالي بالأمر شق طريقه نحو المخرج يلتفت إلى الوراء لمشاهدة جمال الطبقة الجصية وهي تجف بسرعة·· عبقرية دالي تتمرأى أمامك في المونمارتر هكذا، بهذه الحكايات، فأنت ذاهب لا إلى نظرية نقدية، إلى شكل فني جاهز، إلى خلاص ذوقي تنشده، بل أنت ذاهب إلى من كان يرمي بنفسه بين أدراج البيت كيما يرى نفسه يتدحرج وتراه أمه يتدحرج، كما رفس يوما رأس شقيقته /ماريا/ التي تصغره بثلاث سنوات، وأنت ذاهب إلى حياته مع /جالا/ زوجته ومرآته في الفن والحياة· إن /إيلينا ديماكونوفا/ الروسية جاءت فرنسا وهي لم تبلغ سن التسعة عشرة من عمرها التقت الشاعر بول ايلوار فنذرت نفسها له عشقا وهياما حتى اختطفها سلفادور دالي برشاقة نحات يحول الأشكال إلى نبؤات عوضته غالا عن كل شيء، منعته عن خيالاته الخرافية، وبفضلها كان يبرز أكثر، يلتمع أكثر ويكسب المال أيضا· لقد كانت الشيكات تنهمر كالإسهال مثلما ردد هو عند ذهابه إلى نيويورك، فقد صمم الحلي المذهبة، الملابس، خشبات المسارح، لحظتها صار غاوي شهرة، متلبس بدناءة الموقف السياسي، جشع، متنصل عن أخلاق الفن· في متحفه في المونمارتر تجد كل هذا الذي يدفعك إلى حيادية الفن، بمكابرة وبلا عاطفة، فسلفادور جاء إلى أسطورته، شهرته، بريقه، متحفه لا من قسوة الزمن عليه ولا من تربية غير محظوظة ولا من امرأة تركته فهو بشع في كل شيء، في شاربيه الصلبين المعقوفين، في نظرته الجانحة، العدوانية، القارصة، وفي نرجسيته، إن عمله في /انمساخ نرجس/ استعادة لنرجس الذي وقع في غرام انعكاس صورته على سطح بركة شفافة، وأخذ يحدق طويلا بصورته، ليكتشف خيبته إذ لم يتمكن من معانقة صورته المعاكسة، استكانت قوته فحولته الآلهة إلى وردة، ونرجس هنا تقرأ على تلوينات سريالية، على أوجه أربع، وهي /غالا/ التي خطفها من بول ايلوار· أحال الساعات إلى أجسام مطاطة، مطواعة، في عمله الباهر، المثير بعنوان /ثبات الذاكرة/ فثمة ساعات تشير إلى الوقت، ساعات متساقطة، ذائبة، لتبرز خلفيته العميقة بعلوم الزمن وقانون النسبية· إن الإشكال مع دالي أنه يجب أن تنسى أنك وحيد في المعرفة الجمالية وبواطنها، فهو في المرة الواحدة ما بعد سريالي، ما بعد بعدي، وهو بسيط، رهيف، يبني من الهلوسات أوراقا ولوحات ومدنا من الجير والنحاس والمعادن الأخرى أبنية لا تتكلس ولا تنهار· هو ابن منطقة فيجويراس الكتالاني، عجيب جدا في مضامينه في الأدب والفن والنساء وفي السريالية، هذا العجيب في أبيضه وبأسوده وبأخضره الزيتوني استبدل البنطلون الطويل ببنطلون قصير واستبدل الجوارب بعصابات للساق ملونة، نموذجي في أطواره المتفرقات وعلى فمه غليون فارغ· في الواجهة البرانية من متحفه يمكن أن ترى أشياءا مرتبة بحذاقة باعة الأشرطة السمعية والسجائر والخواتم، الطبعة الأصلية من كتابه /حياتي السرية/، الكتب الشعرية بأغلفة مصممة من دالي، رسائله إلى أصدقائه، عشرات الصور الشخصية، وفي الداخل ما لا يجيء على ذاكرة إلا مقرونا بعطر ·· - أظافر صناعية مصنوعة من المرايا· - أسطوانات معطرة· - أحذية ذات رقاصات· - نهود زائفة كان يلبسها حيث تبرز من الخلف في ظهره - تليفون مصنوع من سرطان البحر· لقد أطلق العنان لرغبته الفنان، المهرج، الذي جاوز بفنه كل الرغبات عدا رغبته في جمع الدراهم وهو الذي قال عنه أندري بروتون /أفيدا الدولار/، لكن لا لويس أراغون ولا بول ايلوار ولا أندري بروتون قدموا ما قدمه الغريب مع أطواره وغليونه وهذياناته، لقد كانوا يهذون في الفن ويرجعون إلى حكمة النهار لكنه كان يهذي في الحياة بالمال حتى يكسب في الفن ما لم يكسبه المسكين فان غوغ، قطعا لن يقطع سلفادور دالي أذناه من أجل /غالا/ ولا حتى شعره من شاربيه المفتولين كرجل عثماني قديم·