نعم ل"العصري".. لا لجلالة الملك! بعد نشر مقال "ويل لمصر والجزائر والسعودية من السودان" في الشروق اليومي، راسلني أحد القراء من المغرب ويدعى "فيصل العصري" قائلا: "بقدر ما يسرّنا حرص الجزائر على وحدة السودان وعدم تقسيمه إلى جنوب وشمال، وباقي البلدان العربية، بقدر ما يؤلمنا رغبة الجزائر في تقسيم المغرب، وفصل جنوبه الصحراوي عن شماله". * العصري هنا أصدر حكما، واعتبره من المسلّمات، وهو رأي يشاركه في كثير من الإخوة في المغرب، بل وكثير من العرب، ناهيك عن المؤسسات الرّسمية في المغرب، وبالطبع أختلف معه في هذا الحكم، ولست هنا لأقر هذا الاختلاف، وإنّما لأبحث معه ومع كل الخيرين في الجزائر والمغرب، بل وفي الدول العربية جميعها عن فضاء أخوي مشترك يجمعنا من أجل الخروج من فوضى العلاقة غير السوّية، والتي ولدت من سوء النوايا ومن وقائع طغت فيها السياسة والمصالح على منظومة الإيمان، لهذا افضل البحث معه عن إجابة لسؤال طرحه هو من الأهمية بمكان. * تساءل العصري في رسالته بناء على حكمه المسبق على الجزائر:"هل مخطط تقسيم السودان مخطط تآمري، ودعم مصر له خيانة؟، والويل لها وفق ما جاء في مقالكم، في حين أن مخطّط تقسيم المغرب وانفصال الجنوب هو دعم لتقرير الشعب الصحراوي لمصيره، كما أن دعم الجزائر لذلك هو مناصرة الشعوب لتقرير مصيرها وليس خيانة، مع العلم أن مصر لم تسلّح جنوب السودان، ولم تقم لسكانه دولة على أراضيها، في حين أن الجزائر منحت البوليزاريو السلاح، وأقامت "الجمهورية الصحراوية" فوق جزء من أرضها "تندوف"، واعترفت بهذه الجمهورية، وفتحت لها سفارة في الجزائر قبل استفتاء المصير، وهو ما لم تفعله مصرالخائنة، حسب المقال، ما هذا التناقض؟ الصحراء لها الحق في الانفصال، وتقسيم السودان مؤامرة، ودعم الجزائر لانفصال الصحراء دعم للشعوب في تقرير مصيرها، واستعداد مصر للاعتراف بجمهورية جنوب السودان بعد الاستفتاء و ليس قبله. كما فعلت الجزائر، هو عمالة وخيانة؟. * لقد سبق أن وعدت الأستاذ "الفاضل" فيصل العصري بمقال يخص هذا الموضوع، ويتعلق تحديدا بقضية الصحراء الغربية، وسأحاول هنا جاهدا الإجابة عن سؤاله المشروع، والذي يفترض أن يؤرقنا جميعا، إما على الصعيد المغاربي أو على الصعيد العربي، ذلك لأنه يأتي في مرحلة التكتل والوحدة في العالم بأشكاله المختلفة، (إقليمية وقارية وأممية)، ونتراجع نحن ونتجزّأ حتى داخل الدولة القطرية الواحدة.. إننا نعيش خارج عصرنا، وتلك مصيبتنا الكبرى. * غير أنه قبل الإجابة عن سؤاله المشروع والدخول معه ومع القرّاء في نقاش حول مسألة الصحراء الغربية، من أجل تعميم الفائدة، عليه أن يعرف عدم صواب ما ذهب إليه لجهة القول: إن ما تقوم به مصر في الوقت الحالي بشأن الاستفتاء حول مصير جنوب السودان خيانة، فأنا لم أصدر حكما حول موقفها، ولكنني ومن موقع حرصي على انتمائي لأمة واحدة ذات رسالة خالدة، نبّهت إلى المخاطر التي سيجرها تقسيم السودان على مصر والجزائر والسعودية.. وهذا أضعف الإيمان في هذه المرحلة السوداوية من تاريخ أمتنا.. إنها بداية العودة إلى الحقب الإستعمارية. * لنعد إلى مناقشة العصري.. فهو مؤرق بوطنيته، وهذا مطلوب بل وواجب، ذلك لأنه كلما كان الفرد العربي محبا لوطنه، كان بالضرورة، بل وبالنتيجة أيضا محبا لقومه ولأمته، وليس هناك تناقض بين الوطنية والقومية إلا عند الذين يتصوّرون أن أوطانهم تسبح في كوكب خاص بها، أو تابعة لكوكب آخر خارج محيطها، أو الذين يعيشون في وثنية الأوطان ويتخذونها بديلا عن الإيمان. * ولأن "فيصل العصري" مؤرق بوطنيّته المملكة المغربية - و هذا يحسب له عند الله و عند الناس - فإن سؤاله يستدعي البحث عن إجابة لا تتناقض مع حبّي للجزائر وللأمة ومن ضمنها المغرب، وهذا يعني أننا نلتقي معا في فضاء واحد، يتسع لنا جميعا، يمكننا التعايش فيه بحب. * للإنصاف فإن سؤال العصري لا يمكن تجاهله أو حتى التحايل في تقديم إجابة له - تقبل أو ترفض منه - ذلك لأنني عدت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية إلى مختلف المواقع المغربية، فوجدتها جميعها تجمع على مغربية الصحراء الغربية وتحمل الجزائر مسؤولية ثورتها في الماضي، وصلابتها في الحاضر، وانفصالها في المستقبل، وهذا يعني أن هناك رأيا عاما مغربيا مؤيدا لموقف أصحاب القرار في المملكة، وقد يكون هذا التأييد على باطل، مثلما قد يكون على حق، ولست هنا بصدد مناقشة هذا الموضوع، وإنما الذي يعنيني - ومن منطلق جزائريّتي - وهو موقف يخصني وحدي ولايعني أي جهة أخرى رسميّة أو غير رسمية في الدولة الجزائرية الأسلوب المتناقض مع شأنين مسألة جنوب السودان، ومسألة الصحراء الغربية إذ كل منهما في نظر "العصري" سيؤدي إلى تقسيم دولة قائمة. * لنتأمل الواقع هنا في الصحراء الغربية، وهناك في جنوب السودان، فالحالة الأولى قائمة على اعتراف المغرب نفسه بتقرير المصير في الصحراء الغربية، الدليل عن ذلك، المفاوضات التي يجريها بين الحين والآخر مع الصحرويين وتحت إشراف أممي، ودعوته وسعيه على أن ينحصر الاستفتاء في مسألة واحدة هي "حكم ذاتي تحت السيادة المغربية"، وخلال كل السنوات الماضية التي شهدت السلم والحرب، الكر والفر، التفاوض والحرب الإعلامية، شراء الذّمم والاختيار الحر، التدخل الدولي والتنمية المغربية، ظلّت الأمورعالقة بين الطّرفين، وكلما تقدّمت الأمور نحو شعاع أمل للحل، قيل إن هذا جاء نتيجة جهد مغربي، وحين تصل المفاوضات بين الطرفين إلى طريق مسدود تحمّل الجزائر مسؤولية دفاع الصحراويين عن حقوقهم. * أمّا الحالة الثانية جنوب السودان فإن هناك حكما ذاتيا أقيم بعد أن وضعت الحرب أوزارها، سيؤدي إلى الانفصال طبقا للمخططات الاستعمارية الجديدة في المنطقة، ولوطبّقنا نظريا على الأقل ما سيحدث للسودان في يناير المقبل على الصحراء الغربية، فإننا سننتهي إلى القول: إن جبهة البولزاريو ستقيم دولتها المستقلة قريبا باعتراف المغرب، وسيكون الاستفتاء بنعم أو لا لاستقلال الصحراء، وما تجربة الجزائر عند استقلالها عن فرنسا الاستعمارية منّا ببعيد. * نحن لا نود الوصول إلى هذا على المستوى المغاربي، وأتصور أن المغرب بوجه خاص لا يريد هذا، ذلك لأن الحالات الثلاث التي أقرّتها الأممالمتحدة، جميعها لصالح المغرب، بما فيها الخيار الثالث الذي يخشاه المغرب، وهو الاسنقلال، بالرغم من أن المغرب عمل، دون قصد منه، على أن ينتهي النزاع في المنطقة إلى قيام دولة صحرواية. * والواقع أن الحالة السودانية في التعامل مع الجنوب تختلف عن الحالة المغربية في التعامل مع الأقاليم الصحراوية، فالمغرب عمل خلال السنوات الماضية على تنمية تلك الأقاليم وتطويرها، ولكن تم ذلك على حساب أقاليم مغربية أخرى، ومع هذا لم يتمكّن من تأييد سكان الصحراء لفكرة الانضمام، وعلى الصعيد الداخلي كشف الاهتمام بالأقاليم الصحراوية عن حقد دفين سببه تراكم ظلم أقاليم أخرى لأسباب كثيرة يدركها الشعب المغربي، لكنه بحكمته المعهودة، التي ورثها من فلاسفة الأندلس، وبتجاربه المرة لقبائل صنعت تاريخه ومجده وانتصاراته يتفادى الجهر بما في الصدور، إلا لمن أحس فيه صدق النية ونبل الهدف. * على المستوى الرسمي بين الدولتين المغرب والجزائر، هناك اختلاف في الرؤية للمسألة، فالادعاء المغربي بأن الجزائر تؤيد جبهة البوليزاريو من أجل مصالح خاصة من مثل: إيجاد منفذ لها عبر الصحراء الغربية، أو حتى تعطيل حركة المغرب في النمو، أو لتوسيع أراضيها أو لتكون القائدة في المنطقة.. جميعها تهم تشبع رغبة النظام الملكي في المغرب، والحقيقة - في نظري - أن الخلاف بينهما، من منطلق سياستين تحدث عنهما بكل وضوح الرئيس هواري بومدين في آخر رسالة بعث بها قبل وفاته إلى الملك الحسن الثاني، أولهما: سياسة جزائرية تريد أن تكون وفية لقيم الثورة ومؤيدة للشعوب في تقرير مصيرها، والثانية سياسة مغربية تقوم على وراثة الاستعمار. * وإذا كنت أقول: نعم - بكل ما أوتيت من قوة - لما جاء في رسالة الأستاذ فيصل العصري من المغرب، فإنني بالمقابل، أقول: لا لما جاء في خطاب جلالة "الملك محمد السادس" بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين للمسيرة الخضراء في السادس من نوفمبر الجاري، وذلك حين دعا المجموعة الدولية إلى وضع حد لمواقف الجزائر تجاه الصحراء الغربية بقوله".. إننا ندعوها لتحمل مسؤوليتها بوضع حد لتمادي الجزائر في خرق المواثيق الدولية الإنسانية، ضمن حالة شاذة لا مثيل لها، ولا سيما رفضها السماح للمفوضية العليا للاجئين بإحصاء سكان المخيمات و حمايتهم.." * إن مثل هذا النوع من الخطاب وهو ذو طابع هجومي، عفا عنه الزمن، أولا: لأن القضية الصحراوية معترف بها على مستوى الأممالمتحدة، وثانيا: دخول المغرب في مفاوضات مع جبهة البوليزاريو، آخرها اللقاء الفاشل في ضواحي نيويورك، والذي جاء في سياق الجولة التي قام بها موفد الأممالمتحدة "كريستوفر روس" إلى المنطقة نهاية أكتوبر الماضي، وثالثا: لأن حل المشكلة مع الصحراويين لايأتي من خلال إلقاء التهم على الجزائر. * أعرف أن الحكومة المغربية أدرى بمصالح شعبها، لكن هذا لا يمنع من القول إن تهجم جلالة الملك على الجزائر، ليس فقط هروبا إلى الأمام، ولكن يوضّح أن المملكة لم تستفد من تجارب العقود الثلاثة، مثلما لم توظّف التاريخ المشترك بينها وبين الجزائر ولا العمل الطيب الذي قامت به لدعم الثورة الجزائرية - بالرغم من جحود ونكران بعض القادة السياسيين أحيانا - لصالح عمل مشترك، بل عملت على العكس من ذلك، إذ راهنت خلال السنوات الماضية - خاصة سنوات الإرهاب - على ضعف الجزائر. * بعد هذا كلّه ليعلم الشعبين في الدّولتين بعيدا عن المواقف السياسية الظاهرة: أن العلاقة بين الحكام في المغرب والجزائر ليست على مستوى الكراهية التي تزرع بيننا، وأن المطلوب منا الحديث بكل صراحة وشفافية، خاصة النخب المثقفة، حول مصير منطقتنا، من منطلق حقوق الإنسان والحريات، ومن ضمنها مسألة الصحراءالغربية، لا أن نظل خاضعين لحكام أحلّونا دار البوار * إلى متى تفرش الزرابي الحمراء المبثوثة حين يحل حكامنا ويرحلون من وإلى الدولتين، الجزائر والمغرب، و نحن لا نملك حتى حق السؤال عن المصير الوحدوي لدولنا.. لقد حان الوقت لنسألهم في النهاية: هل أنتم جادّون في حل المشاكلات العالقة..؟ انتبهوا أيها القادة، نحن على المستوى العربي والإسلامي نغرق في مرحلة جديدة، ستنتهي بنا إلى استعمار أشبع من القديم.. يبدو أن بعضا من الحكام منوط به القيام بهذا الدور، أو يسعى لذلك، أو على الأقل يتمنّى أن يختار لهذا الدور.. فما أذلّه، ومأ أبشعه، وما أهونه من دور!؟ *