نظرا للعراك الانتخابي في العديد من الدول العربية، أصبح التساؤل ملحا وضروريا. وللإجابة على هذا التساؤل، وبدون تردد، وبقناعة ذاتية راسخة وجدت أنه لا توجد أحزاب، ولا ما يطلق عليه حياة حزبية بالجزائر. * فالمؤشرات عديدة لإثبات ذلك، وأحزابنا في سبات عميق على مدار العام، فلا تجد التحرك إلا في المعارك "أي الانتخابات"، وليس التحرك بنية خدمة الشعب والأفراد بقدر ما هو تدخل للفوائد والمغانم التي قد يمكن الاستفادة منها، نظرا للمساهمة في تنويع الديكور، فهكذا هي أحزابنا، ليست أكثر من مجرد أقلام ملونة تملأ الفراغات والمساحات، أو أحيانا "تسير بالريموت كنترول". * فحتى الأحزاب التي كانت تلقب بالسنافير، أصبحت "بوتيكات تجارية"، تقدم خدماتها من الباطن أو بالوكالة عن الآخرين، فأصبح الحزب لدى العديد سجلا تجاريا بامتياز، وإنني لا أفترئ حيث أكدت كلامي الخطط الانتخابية المختلفة. * أما الأحزاب الكبرى، فنجدها في انكماش مستمر، وفي حالة من الاستنزاف لمختلف قواعدها النضالية، فمنها من لا تزال تعيش في الماضي، ومنها من فقدت هويتها، وفئة أخرى لا تجدها موجودة إلا في المقرات فقط، ونشاطها لا يتعدى حدود الحجرات الحزبية.. * فأحزابنا، وبدون استثناء، عرفت العديد من "التصحيحات"، و"الانشقاقات"، و"الانقلابات البيضاء أو العلمية"، وغيرها من الممارسات الكاشفة لفقدان الثقافة الديمقراطية، ولروح المواطنة، فأصبحت الحياة الحزبية، التي جاءت بها أحداث أكتوبر 1988 والمكاسب الديمقراطية في خبر كان، واندثرت العديد من المكاسب.. * فاللوم يقع على القيادات الحزبية بالدرجة الأولى، التي اتبعت الأطماع على حساب القناعات، والمصالح على حساب المبادئ، والزردات على حساب العمل، فأصبحت حياة حزبية، سماؤها المناسبتية، أو الموسمية، فطول العام في نوم عميق، ولا تظهر إلا في المناسبات الوطنية أو أثناء الحملات الانتخابية... وتحولت العديد من الاحزاب إلى مدارس للتكوين المهني بقدر ما يفترض فيهم أن يكونوا مدارس للنضال والوطنية، فالكل "يناضل" وقلبه متعلق "بالاستوزار" و"التموقع". * ومن المفارقات الحزبية -والتي هي مؤشر آخر على انعدام الحياة الحزبية- أن أحزابنا تحاول أن تكون في السلطة وفي المعارضة في ذات الوقت، فتريد أن تكسب كلا من الزبدة ومال الزبدة معا. فنراها من جهه تعمل على الخرق والحرق، ومن جهه أخرى تعمل على التهدئة وسياسة النعمة، والذي قد يصطلح عليه "الاستعباط أو سياسة الضحك على الذقون"، كما ان المعارضة البناءة -كما يريد البعض أن يوهمنا- ليس لها مقام في هذا الموطن... * فالحزبية في الجزائر على غرار دول العالم، لا يمكن تصنيفها على أساس أيديولوجي، أو فكري، فما كان يوصف سابقا بالمناضل الأحمر، أصبح الآن يلقب ب "البرجوازي الأحمر"، ومن كان يوصف ب "المناضل المسلم أو الزاهد"، اصبح الآن مناضلا منفتحا على عالم التجارة والمال، والذي ضاع في هذه الحلقة أو المعادلة هي "القاعدة". * فالقيادة قد ارتقت نحو الأعلى "بنسيان" منطلقاتها وفلسفة وجودها أثناء عملية الصعود، فأصبحت قواعد أحزابنا بدون قيادات، وقياداتنا بدون قواعد، وانعكس ذلك سلبا على السير الصحي والعادي للعديد من المؤسسات الرقابية التي يفترض أنها تعمل على تجسيد التطلعات الشعبية... * فالعديد من القوانين التي لها تأثير مباشر على الحياه الحزبية، لم نسمع منها ولو كلمة للإثراء أو المناقشة، فالكل يحاول تبرير الطروحات الرسمية لعلها تشفع له أثناء توزيع المغانم، فأصبحت العفة وروح المسؤولية والصفاء الحزبي "مجرد مصطلحات مندثره" لا وجود لها في يومنا هذا. * ففي بعض الدول -التي تعد أقل تفتحا من الجزائر- نجد ان الاحزاب تحاول فرض واقعها من خلال طروحاتها، ونظامها السلمي المتواصل، مما يؤدي بها إلى فرض نفسها على الكل، بينما نحن نريد فرض أنفسنا عن طريق البيانات الإعلامية المقتطبة، أو استعمال الزيوتية والبزنسة ولو على حساب المبادئ والقيم، وما اكثرها في جزائر اليوم، جزائر الحزبية المغشوشة... * وإنني أكررها بقناعة ومرارة أن العلامة "مالك بني" عندما قال في القرن الماضي إن ساساتنا يمارسون "البلوتيك" وليست "السياسة"، كان محقا، بحكم ان السياسة علم، وله محددات و واعد، بينما "البلوتيك" يعتمد عادة على الغشاعة والقيل والقال بدون محددات ولا قواعد للعبة... * ومن بين "إفرازاته" أننا ننتج رجال "سياسة" بقدر ما ننتج رجال "دولة"، وما اكثر قاعدتهم في جزائر اليوم... * وأخيرا، يؤسفني أن أقول إن هذا الحكم القاسي، والمعاكس للواقع الحزبي المرير، ما هو إلا محصلة سلبية للحياة الحزبية ورصدا لها لمدة سنة، ونحن على عتبة انتهائها، كما أنه لا يمكن تصور نظام ديمقراطي حقيقي في ظل انغلاق حزبي، سواء بعدم اعتمادها، أو بخلق منظومة وبيئة تشريعية منوية لممارسة وعراك سياسي، فدولة القانون والحق... تبدأ من هنا...