الشيخ الراحل "محمد شارف" عاش 103 سنوات، وصام أكثر من 90 رمضانا وسكن في قبر من غرفتين! كرمته الشروق فبكى مطأطئا رأسه لساعتين! لقد انطفأت أمس شمعة من شموع علماء الجزائر،حيث أفنى حياته في خدمة الاسلام ونشر تعاليمه في المجتمع بدءا من الاسرة الصغيرة إلى تربية الأبناء إلى الحفاظ على نواة الأسرة إلى وحدة الأمة الاسلامية. * هي محطات لم يغفل عنها الشيخ الراحل "محمد شارف" مفتي الشعب الجزائري المعروف بنسبه من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب وثبت هذا النسب كما تقول المدوّنة بتوقيع 25 مسنا كبيرا تم تزكيتهم من قبل قاضي الجزائر... * وينحدر الشيخ محمد شارف من أسرة مجاهدة معروفة باسم الحوامد بضواحي خميس مليانة بولاية عين الدفلى، فوالد الشيخ واخوته كلهم حجاج بيت الله الحرام ومن حفظة كتابه الكريم.. * .. ولد الشيخ العلامة محمد شارف عام 1908، حفظ القرآن وأتمه في سن العاشرة من عمره، ثم انتقل إلى العاصمة للدراسة، حيث تعرّف على مشايخ أخذ عنهم العلم والفقه، كل هذه العوامل ساهمت في نبوغ الشيخ شارف. * عرف الناس الشيخ شارف حبه للاختلاء، ليراجع ما أخذ عن شيوخه وكان هذا هو دأبه في العلم والتعلم، وظل على هذا النسق إلى أن انخرط "نضاليا" في جمعية العلماء المسلمين، فكان الشيخ حريصا أشد الحرص على حضور الدروس الاصلاحية التي كان يلقيها أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نادي الترقي فجانَبَ جلوس الشيخ بن باديس والبشير الابراهيمي، والطيب العقبي.. هذه الشخصيات أثرت في الشيخ شارف، فازداد زهده في الدنيا وورعه، ورقة قلبه، وسعيه الحثيث في قضاء حوائج الناس الذين يقصدونه. * في سنة 1936 تحصّل الشيخ على رتبة الإمامة بعد أن أجرى امتحانا كتابيا ولكن لم يلتحق بمنصبه كإمام، لأن الاستعمار الفرنسي فرض التجنيد الاجباري ابان الحرب العالمية الثانية، فوقع كثير من الشباب تحت الأسر والاحتجاز، وكان الشيخ ضمن هؤلاء الأسرى محتجزا من سنة 1939 إلى سنة 1945.. وخلال مدة السجن واصل نشاطه التعليمي، فالتفَّ حوله عدد هائل من المعتقلين بعد أن أدركوا مكانته العلمية، فكان يلقي للناس دروس الفقه و في النحو واللغة، ومن الطلبة المحتجزين معه نجد من تونس والمغرب والسينغال، وبعض الدول الافروآسيوية.. * ان لسجن الشيخ خصوصيةً في حياته، فاتخذ السجن محرابا لمناجاة الله، ومراجعته للقرآن الكريم حزبين كل يوم، ويقوم بإلقاء دروس يسمعها من لا يفهم العربية، فيتولى آخرون ترجمتها، وظل على هذا النحو إلى أن أفرج عنه، وعُين مؤذنا بالجامع الكبير. * وبعد الاستقلال أجرت وزارة الشؤون الدينية امتحانا للأئمة قصد تصنيفهم، وبموجب هذا الامتحان عُين إماما خطيبا تجول فيها على مساجد العاصمة من كتشاوة وبلوزداد.. * ومن عجائب تضحياته أنه باع منزله الواسع الذي كان يسكنه بأعالي بوزريعة، ليشتري منزلا أضيق منه كل هذا ليتمكن للتفرغ لطلبته، وقلما تجد كتابا في مكتبته العامرة ولا يوجد عليها تعليقاته ، فهو كثير المطالعة إلى درجة أنه أثر على بصره، فهو لا يرى إلا بعين واحدة.. وواصل دربه ونهجه في المعاملات، والفقه، والتخصص في الفقه المالكي والمرجعية الدينية للجزائر. * الشيخ محمد شارف ظل لسانه ذاكرا إلى آخر لحظة من حياته حيث قال عنه المقربون أنهم يستمعون "همهمة"، فلما يسارعون إليه يجدونه يقرأ القرآن، ويراجعه، إلى أن ، وافقه المنية صبيحة الخميس 6 جانفي 2011.. * 103 (مائة وثلاث سنوات) هي عمر الشيخ شارف عاشها في قبر F2 في العاصمة ويرحل اليوم إلى قبر الآخرة صرخته في حياته سمعها المسؤولون، فأعرضوا عنه، ولم يتذكروه في مناسبة، ولم يذكروه بالخير الذي يليق بمقامه.. فضيق سكنه ضاعف من متاعبه الصحية، وأصبح الشيخ يسعل في كل لحظة، ويصعب عليه التنفس أو التنقل إلى المناطق المرتفعة. * لقد أصبح عند الشروق تقليد تكريم العلماء، فحرصت أشد الحرص أن يكون الشيخ شارف من الأوائل المكرمين لسنة 2009، فدخلت بيته الضيق وأتت به إلى مقر الجريدة حيث ألبسته البرنوس العربي، وصرح خلالها تواضعا "أني رجل أقل من أن يُنظر إليه ويُكرم" قال هذا الكلام والدموع تنحدر على خديه لتسقط على الأرض.. ربما أراد أن يخرج ضغطه في عبرات الدموع؛ وهذا الشيخ الذي عُذب من أجل الجزائر وسُجن من أجل أرض الجزائر، وجاهد في الله حق جهاده ليجد نفسه وعائلته في قبر من غرفتين، لكن رحمة الله واسعة.. فخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، وفقدان الشيخ شارف خسارة للامة الاسلامية كما قالها الشيخ القرضاوي، ولو كان الفقيد الذي عاش 103 سنة فنانا أو تاجرا أو رجل أعمال أو مطرب.. لهللت له الجهات والسلطات، وأصحاب البنادر، وأصحاب الڤنادر، ربما نظروا إلى العَلَمِ لتنكيسه. * .. شاء الله أن تكون وفاة الشيخ شارف بعد أن صام أكثر من 90 رمضانا في حياته، وعايش أزمنة مديدة، وشخصيات إسلامية عديدة، ولم يفارق لسانه القرآن منذ فترة العشرينيات إلى القرن الواحد والعشرين. * فطوبى لمن كان لسانه رطبا من ذكر الله.