شعوب المغرب الكبير تحرك مياه برك العرب الراكدة في الوقت الذي تتسارع فيه، من البحر إلى البحر، مسارات التفكيك المنهجي للعالم العربي، جاءت الرجفة الأولى من المغرب العربي الكبير، لتحرك مياه برك العرب الراكدة، في انتفاضات يائسة لشعوب، قد ترضى في الحد الأدنى باستبدال الأحصنة النافقة، في انتظار أن تتولى نخبها التي لم تسقط بعد في الفساد، تجديد عربات الحكم المعطلة، وصياغة بدائل تؤمن للأوطان السلامة، وللشعوب الشغل، وقوت اليوم، والحد الأدنى من الكرامة . * الأحداث الخطيرة التي تعيشها معظم الدول العربية اليوم مع مطلع السنة الجديدة حبلى بمآلات مفتوحة على المجهول حتى بالنسبة للأطراف والقوى التي تعمدت منها ذلك التسارع المفاجئ في أكثر من إقليم، وكأنه يراد الوصول إلى تفجيرات متابعة تؤدي غرضا ما زال غامضا. في عجالة دعوني أذكر بأبرز الأحداث في الأسابيع الأربع أو الخمس من نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011، التي واكبها ذلك التسريب المنظم عبر ويكيليكس لمعلومات انتقيت بعناية لتحريك البرك العربية الراكدة، في اختبار مجازف للرأي العام العربي، فقد انتهت سنة 2010 بإغلاق مسار التسوية في الصراع العربي الصهيوني بشكل مريب أريد له أن يضع النظام العربي بقيادته الموصوفة بالاعتدال في حرج غير مسبوق .
عودة سياسة الفوضى الخلاقة ففي الملف السوداني، اختارت الولاياتالمتحدة والغرب الذهاب إلى صفقة مع عمر البشير بتجميد إجراءات الملاحقة القضائية ضده، ووعده بإخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مقابل تسهيل الاستفتاء والقبول بانفصال جنوب السودان. وفجأة ومن دون سابق إنذار تفتح جبهة جديدة على العالم العربي اسمها أمن وسلامة مسيحيي الشرق، أشعل فتيلها في العراق ليتم التفجير الأخطر له في مصر الراعية لأكبر الطوائف المسيحية في العالم العربي بتفجير الإسماعيلية. وفي لبنان، فعلت أدوات المحكمة الدولية الخاصة إلى أقصاها بنية واضحة لتفجير الوضع الهش بلبنان، وانتهت الأمور بسقوط الحكومة ودخول لبنان نفقا مظلما . وفي المغرب العربي، جاءت هذه الانتفاضة الشعبية في تونسوالجزائر لتأخذ منحى مفتوحا على المجهول في تونس، مع تواصل الاحتجاجات، وعجز النظام في معالجتها إلا بوسائل القمع، أو بإجراءات ترقيعية لم يصدقها أحد من التونسيين، كما لن تمنع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في الجزائر من عودة الاضطرابات في آجال قريبة . كانت هذه أحداث شهر ربما هو الأسوأ منذ سقوط بغداد، لأنها تكشف عن فعالية سياسية "الفوضى الخلاقة" التي لم تقبر مع رحيل بوش وإدارة المحافظين الجدد، بل كانت إدارة أوباما أكثر فاعلية من إدارة بوش في توفير الظروف الأفضل لسقوط العالم العربي في الفوضى التي قد تسمح باستبدال الأحصنة النافقة في المشهد العربي، بأحصنة جديدة مع الإبقاء على العربات الراشية الفاسدة .
تشخيص الحالة قبل كتابة الوصفة دعونا لا نخطئ في التشخيص، كما كنا نفعل دائما حيال أزمات العالم العربي، ونسلم بلا جدال بالتالي : 1- أن العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله، وتهيئته للتقسيم لم يكن حدثا معزولا، وسوء تقدير من قبل إدارة مجنونة، بل هو مقدمة لسياسة غربية أمريكية لوضع اليد على العالم العربي، وإخضاعه لعملية تفتيت وتفكيك منهجية، يوظف فيها هذا القصور المخيف عند النخب الحاكمة، والأوجاع التي بلغت مداها عند عموم الشعوب العربية . 2- أن أنظمة الحكم اليوم في العالم العربي غير قادرة على إدارة هذه المواجهة، ومآلاتها، لا مع القوى الغربية التي تقود جهارا برنامج الإضعاف والهدم المنهجي لدولنا، قبل البدء في إعادة صياغة خريطة جغرافية سياسية جديدة، تتولد فيها دويلات كما يتولد الفطر في الدمن، ولا مع شعوبها التي تتحرك اليوم بلا قيادات تؤطر حراكها وتؤمنه من الانفلات العدمي . 3- أن الشعوب العربية هي اليوم بلا قيادة حقيقية رغم هذا العدد الكبير من الأحزاب التي تولدت في المسارات التعددية الساقطة، وأن من يدعوها اليوم إلى الثوران وإسقاط الأنظمة خارج أي مشروع بديل يستبدل العربات الراشية مع الأحصنة النافقة، إما هو جزء من اللعبة الكبرى التي تديرها القوى الظلامية الأمريكية كما وصفها الزعيم الدرزي اللبناني، أو أن ما لحق بها من إقصاء وتهميش قد أعمى بصيرته، حتى أنها لم تعد تحلم بأكثر من إسقاط النظم التي حرمتها من المشاركة في الريع. 4- أن أنظمة الحكم في العالم العربي باتت تتعامل مع شعوبها ومع القوى المنافسة لها بمنطق "علي وعلى وأعدائي" ولتسقط الدويلات العربية بأيدي السادة من الغرب، أو بأيدي وكلاء جدد لهم، على أن تؤول إلى قوى أهلية ممثلة للشعوب، تماما كما كان خيار الرئيس الراحل صدام الحسين، واليوم مع عمر البشير، والحريري، وعلى صالح وحسني مبارك . 5- أن نسلم بأن هؤلاء السادة، ليسوا فاسدين بالضرورة، ولا أنهم كلهم موصوفون بالجهل والقصور، فليس العيب في الأحصنة، بل في العربات التي اختاروها، وفي الدروب التي سلكوها، حتى أني أكاد أجزم أنه لو كتب لنا اليوم استبدال حكامنا بأشرف الناس وأتقاهم، وأكثرهم وطنية وغيرة على سيادة الأوطان وسمعة الأمة، وأبقينا على هذه العربات الراشية المعطلة، لكنا وصلنا إلى ما أوصلنا إليه علي صالح، والبشير، ومبارك، وبن علي، والحريري . ولكم أن تختاروا ما شئتم من الزعامات الإسلامية والعلمانية اللبرالية، ممن يكبر في صدوركم، فإنكم سوف تبتلون بأحصنة قد تكون قادرة على الخب والركض وما دون ذلك وما فوق، لكنها سوف تقودكم حتما إلى الإسطبل ذاته، لأن العربة في الحالة العربية هي التي تقود وليس الأحصنة .
تجديد العربة بدل استبدال الأحصنة بهذه المسلمات الخمس التي أستطيع المرافعة عنها بأبسط الطرق، أجدد الدعوة إلى الأطراف الثلاثة: الأنظمة، والنخب والشعوب إلى التفكير بجدية في البحث معا على إنتاج تسوية تاريخية، تنقذ العالم العربي من عملية الإعدام التي تدبر له، للدول والأنظمة، كما للنخب والشعوب، ونتوصل إلى هدنة تتيح لنا فرصة التفكير الهادئ، المؤمن من التشنج، والأهواء، والحسابات الضيقة . في مقالات سابقة، وقفت مطولا عند انغلاق جميع سبل التغيير والإصلاح، السلمية والعنيفة والانقلابية على السواء. وكان بودي أن أقف اليوم مع الانتفاضة الشعبية الرائعة في تونس، والتي تكشف في الحد الأدنى أن الشعوب العربية ما زالت حية، ولم تعد ترهبها، لا الهراوات ولا الرصاص الحي. وكان بودي أن أكون في صف من يدعوها إلى المضي قدما حتى تطيح بالنظام البوليسي، وبالطغمة الفاسدة من حول بن علي، لكني لن أفعل، ولن أكون شريكا في عملية تفريخ أوهام وأحلام كاذبة، لا عند الشعب التونسي، ولا عند أشقائه في الجزائر وفي عموم الدول العربية المرشحة لزلازل مماثلة . ولن أطعن، لا في شرف أو إخلاص القوى والنخب السياسية والنقابات التي تقود أو تدعم الانتفاضة، لكني أخشى أن يخدع الشعب التونسي مرة أخرى كما خدع الشعب الجزائري بعد أحداث أكتوبر، وكما خدع بمسار التعددية وبعشر سنوات من العنف العدمي الذي أدير ضده، فكان الحصاد: استبدال عربة دولة الحزب الواحد الراشية، بدولة أعجز عن إيجاد وصف دقيق لها .
القطيعة مع ثقافة الاستنساخ والاستيراد مأساة شعوب ونخب العالم العربي، أنها عادت للتاريخ بعد الحقبة الاستعمارية عبر نظام الاستيراد والقرصنة بالاستنساخ، ليس فقط لنماذج الدولة الغربية من الشرق والغرب، بل لنماذج التنمية والمؤسسة الإنتاجية أيضا. وكما فشلنا في التجربة الاشتراكية نفشل اليوم في التجربة اللبرالية، لأننا لم نمنح أنفسنا فرصة للتفكير بهدوء وأصالة في بناء دول تتناغم مع خصوصيات مجتمعاتنا، وأولويات شعوبنا، ولم نفكر في نموذج آخر للمؤسسة الإنتاجية والخدمية التي تحل مشاكلنا المستعصية، وفي تأمين الغذاء والماء والسكن والحد الأدنى من الخدمات، وتوفير الشغل لأكبر عدد ممكن . كل ما سمعناه من النخب، في الحكم كما في المعارضة، هو محض خطاب أجوف معتل الأول والآخر، حول "الاشتراكية هي الحل" و"اقتصاد السوق هو الحل" و"الإسلام هو الحل" و"الدولة المدنية هي الحل" و"العلمانية هي الحل" و"الديمقراطية هي الحل" حتى أصبحت هذه الشعارات الفارغة مبتذلة متهرئة، بل ومكروهة عند الشعوب . أنا من الذين يؤمنون، بل ويحلمون بقيام دول تستلهم في الحد الأدنى من الإسلام قيم العدالة الراقية التي حملها، بل وأصبحت أكثر قناعة، بأن أقصر طريق للتمكين لقيام دولة للمسلمين، لا يجبر فيها المسلم على تحمل صراع بين حسن العبادة لله، وحسن الاستخلاف في الأرض، هي الدولة المدنية التي تعيد للناس الحق في إدارة أمرهم بالشورى. ومع ذلك فأنا على استعداد للعمل في ظل دولة لا تكون ملزمة في دستورها بالتقيد بأحكام الإسلام، يكفينا منها أن تلتزم باحترام خيارات الأغلبية التي تفرزها مسارات انتخابية مؤمنة من التزوير. لأن المبدأ الذي لا خلاف عليه بين رافعي هذه الشعارات هو العودة للإرادة الشعبية والاحتكام إليها . ثم إني على استعداد للتنازل لبن علي، وبوتفليقة، ومبارك، وعلي صالح وغيرهم، لكي يحكموا مدى الحياة إن شاءوا، أو حتى تحويل هذه الجمهوريات إلى ملكيات وإمارات تورث لأبنائهم، إذا التزموا لشعوبهم بإجراءات موثوق فيها تلزمهم باحترام إرادة الأغلبية في بناء الدولة كما تشاء، والاجتهاد في بناء اقتصاد محرر من هذه التبعية الفكرية للغرب .
البحث عن سبل تخليق القوة من الضعف لكل ذلك علينا كشعوب، يراد لها أن تسقط في اليأس، ألا تختلط علينا الأمور، فنستنزف طاقاتنا في مطاردة الظل بدل الفريسة، وأن نضغط بدلا من ذلك باحتجاجات سلمية متواصلة، مؤمنة من التخريب، حتى نقنع حكامنا ونخبنا بأننا على ظهر سفينة واحدة، في بحر لجي تغشاه ظلمات ثلاث، وأن نعظ على أوجاعنا، ونؤجل أحلامنا إلى حين، ثم نعكف على البحث عن البدائل وهي موجودة، متنوعة لا تقصي أحدا، ولا تفضي إلى الانتقام من أحد، وتفتح أكثر من أفق وفرصة للجميع. ولأن أحوال العالم العربي، مع ما لحق بها من انتكاسات وترد، لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه شعوب أخرى مثل الصينيين والهنود، كان الجوع والاستبداد يقتل فيهما سنويا الملايين، لكن نخبها استطاعت بإجراءات بسيطة تغيير الضعف إلى قوة، والتخلف إلى تنمية تعمل برقمين، وليس لها ما لنا من موارد في بلدان تستطيع توفير الشغل والقوت بل والحياة الكريمة لأكثر من مليار نسمة .