لا شك أن ما حدث في تونس الشقيقة عبر حراكها الشعبي الإحتجاجي الأخير، كان لحظة تاريخية غير مسبوقة في الأقطار العربية، لاعتبارين أساسيين على الأقل: * أولا، لكون هذا الحراك كان نابعا من الداخل على خلاف ما حدث في العراق وأفغانستان مثلا، وعلى الرغم من أن الموقع الجيوستراتيجي لتونس كان هدفا دائما لقوة دولية كبرى وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية، ومسرحا لمخططات خارجية تستهدف إحكام القبضة على مقدرات هذا البلد. * ثانيا، لكون هذا الحراك وما تلاه من سقوط رأس النظام، كان هدفا مشتركا بين كل التيارات الوطنية (الإسلامية والقومية واليسارية والليبيرالية) ضمن إطار وطني جامع. * * تساؤلات في العمق * غير أن هذا الإنجاز الجزئي الهام، وما يمكن أن ينجر عنه من تغيير سياسي واجتماعي لا يمنع من طرح سؤال المصير وما يرتبط به من نتائج ومقدمات قد تتحول إلى معوقات فعلية أمام الهدف التاريخي المستقبلي. * ويرتبط السؤال الأول في تقديرنا بمدى قدرة النخب السياسية والفكرية القائدة على جعل هذه اللحظة التاريخية النادرة، مدخلا إستراتيجيا للتعبير عن إرادة شعبية مشتركة في الإنتقال الفعلي بعد الثورة إلى نظام حكم بديل. * ومن هنا يأتي التساؤل المنطقي الأعمق: هل هناك في الوسط التونسي العام إجماع حقيقي بين مختلف التيارات السياسية والنخب الفكرية والتنظيمات النقابية والطلابية على نظام الحكم البديل؟ * أو بمعنى أدق: هل سيكون بإمكان التونسيين تحقيق الإنتقال إلى النظام البديل على غرار ما حققته مثلا حالات الإنتقال في كل من بولندا ورومانيا؟ أو حتى غرار ما توصلت إليه المؤتمرات القومية في عدد من الدول الإفريقية كما في بنين والسنغال؟ أم أن إدارة الصراع السياسي بعد رحيل بن علي ستأخذ أبعادا أكثر دراماتيكية كما حدث في الجزائر واليمن؟ * * أجوبة ضد التفاؤل * قياسا إلى التجربة الجزائرية والتجربة اليمنية منذ التسعينيات، فإن كل محاولات القوى السياسية في التكتل من أجل تغيير حقيقي على قاعدة الديمقراطية، باءت بالفشل، ولم ترقى في كل أحجامها إلى مستوى التجارب الإنسانية الناجحة في الإنتقال من نظام حكم إلى نظام آخر بمعنى التحول الشامل، وإن كانت قد أدت في الشكل على الأقل إلى تراجع النظام الإستبدادي الشامل، وأتاحت للشعوب بنسب متفاوتة الحد الأدنى من حرية الحركة والنشاط السياسي. * وإذا كان غياب أرضية الوفاق الوطني وروح التسويات السياسية بين هذه القوى هو السبب المباشر في فشل تكتلها وعجزها عن تحقيق الأهداف الإستراتيجية المشتركة، وتحول نشاطها إلى لعبة نفي متبادلة وصل في بعض الحالات إلى سحق »الخصم« بقوة السلاح، فإلى أي حد يمكن نفي هذا الملمح الإنقسامي في الحالة التونسية؟ * لقد استمعت إلى تدخل السيد عبد الفتاح مورو (الرئيس الأسبق لحركة النهضة الإسلامية) في قناة الجزيرة (برنامج الشريعة والحياة 17 01 2011) وقد أكد أنه لم يستشر ومن خلاله حركة النهضة في تشكيل الحكومة الوطنية التي احتفظت بمعظم وزرائها السابقين، ما يعني طرح السؤال حول مستقبل الإستقطاب بين الإسلاميين والتيارات اليسارية والوطنية على النحو الذي يمكن أن نتوقع معه تورط بعض الأجنحة المحسوبة على اليسار وذات النزعات الإستئصالية في الإحتماء بالدولة كآخر خط دفاعي واستخدام مخالبها في مواجهة الخصوم السياسيين والإيديولوجيين الإسلاميين. * ومن هنا نقول إنه لا يهم الآن معرفة نوعية الشرعنة السياسية والفكرية التي يقدمها الإسلاميون والعلمانيون على حد سواء، بقدر ما يهم أن نعرف أكثر مدى التزام الجميع بمجمل الآليات السياسية المكونة للمنظومة الديمقراطية التي تتحدث عنها كل الأطراف. * * اختبار القناعات * صحيح أن مجريات الأحداث السياسية في تونس في عهد بورڤيبة ثم في عهد بن علي أقنعت مختلف مكونات الطيف السياسي والفكري المعارض برفع الحواجز النفسية وتذويب الخلافات الإيديولوجية في مواجهة آلة القمع الإستبدادي، وحفزت نشطاء الساحة الحقوقية والمجتمع المدني على التواصل والتعاون المشترك خصوصا بعد انتخابات 1989 التي شارك فيها الإسلاميون بقوائم مستقلة وشهدت تزييفا واسع النطاق ثم العودة القوية للخيارات الأمنية والقمعية من طرف نظام بن علي، لكن إلى أي حد الآن يمكن اختبار القناعات المشتركة السابقة على أرضية العمل الوطني المشترك؟ * ألا يمكن أن تتضاءل بعد الثورة لغة الحوار والتواصل بين مختلف القوى المعارضة لتحل محلها أجواب الريبة ومناخات الشك مثل الذي حدث في الجزائر ومثل انتكاسا سريعا ليس على صعيد الحكم وحسب بل أيضا على مستوى أداء القوى السياسية المعارضة والعلاقة فيما بينها ؟ * ألا يمكن في هذا الإتجاه أن نتوقع استقطابا سياسيا وفكريا شرسا في الساحة التونسية تتضاءل معه إمكانية التوافق والتسوية بين جميع التيارات والإتجاهات خصوصا وأن مجريات الأحداث ومعطيات الواقع بدأت تؤكد شيئا فشيئا أن هناك تيارات يسارية وليبرالية تميل إلى عدم التعاون مع الإسلاميين وتعمل ميدانيا على تحييدهم في عملية التغيير المستقبلي؟ * * توقعات منطقية * صحيح أن مبادرة أكتوبر 2005 التي ضمت في تونس قوى سياسية وفكرية مختلقة (التجمع الديمقراطي والتكتل الديمقراطي وحزب العمال الشيوعي وحركة النهضة وغيرها) يمكن أن تغذي التفاؤل بإمكانية قيام تحالفات وتكتلات ذات ثقل جماهيري وفاعلية في عملية التغيير المنتظر بعد الثورة، إلا أن ذلك يبقى في تقديرنا مرهونا بدرجة التجانس بين هذه القوى في الطروحات الفكرية والسياسية، أو في ما يمكن أن نسميه المرجعيات النظرية أو الإيديولوجية التي يمكن أن تفرز التباين أو التعارض في محتويات المفاهيم المستخدمة والأفكار والمواقف والدعوات المعبرة عنها. * وإذا كان السيد راشد الغنوشي (رئيس حركة النهضة) قد صرح في ندوة صحفية 1981 قبل بضعة أشهر من اعتقاله بأنه مع الاختيار الحر وقال إنه إذا اختار الناخب التونسي الحزب الشيوعي فليس له إلا أن يعترف بالنتائج التي أفرزتها صناديق الإقتراع، وأنه لا يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بل بإشاعة الحريات، فهل سيقبل غيره نتائج أي انتخابات يفوز بها الإسلاميون؟ * إن خطورة مثل هذا التساؤل تبدأ بكل تأكيد عندما نتجاوز المستويات النظرية أو مستوى قراءة الخطاب إلى المستوى السياسي العملي الذي مازال يبدو في اللحظة الراهنة متمخضا عن خلافات فعلية حول أرضية التحالف بين الإسلاميين وغيرهم، ليس فقط من ناحية المشارب العقائدية والإيديولوجية المختلفة بين الطرفين، إنما أيضا من ناحية ما يمكن أن نسميه إستراتيجيات التأسيس للعملية الديمقراطية فكريا وثقافيا وسياسيا. * وقد تتعمق مثل هذه الإختلافات من الناحية السياسية عندما تكون العملية الإنتخابية في نظر هذا الطرف أو ذاك وسيلة للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها واتخاذ الدولة كما قلنا خطا دفاعيا في مواجهة الخصوم السياسيين. * ومن هنا نتوقع، ومن غير تحفظ، أن يتجدد السؤال في تونس بعد هدوء الثورة حول ما إذا كانت المسألة الديمقراطية عند الإسلاميين لا تتجاوز مجرد لعبة إنتخابية توصلهم إلى الحكم وتؤبد بقاءهم فيه. * وهو السؤال الذي سيفتح بطبيعة الحال مجالات التعارض الحاد في تصور مستقبل تونس السياسي بين خيارين كبيرين: * 1 خيار "دمقرطة" الهوية التونسية الذي يمثله العلمانيون بمختلف تياراتهم. * 2 وخيار "أسلمة" الديمقراطية الذي يمثله الإسلاميون بمختلف توجهاتهم * ولا أعتقد أن من المفيد هنا أن نتفاءل كثيرا برواية من يقول بأن مثل هذا التعارض يمكن تجاوزه بسهولة ليس على المستوى النظري الصرف فقط، إنما أيضا على مستوى التطبيقات العملية المفترضة لديمقراطية تأخذ بمبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة، ولأخرى مازال البعض يظن أنها ستتخلى عن الديمقراطية حال وصول الإسلاميين إلى الحكم. * وعليه، نتوقع بعد بضعة أشهر أن يبدأ التدافع السياسي والفكري في تونس بين جبهتين متعارضتين قد تميل إحداهما إلى استعمال العنف تماما مثلما حدث في الجزائر. * وقد يتأكد هذا التوقع "المخيف" في ظل رغبات خارجية تريد أن تكون مؤثرة في التغيير بعد الثورة، وعلامة مميزة في التوشح بها في مستوييها الفكري التنظيري من منطلق تصدير القيم الليبيرالية المنتصرة تاريخيا، وفي مستواها الإستراتيجي الذي يعني الهيمنة. * ولعل لهذه الأسباب الرئيسية قد لا نكون متفائلين بمصير الثورة التي حدثت في تونس حتى وإن كان هذا القدر من التشاؤم يتعارض مع الفرحة التي عمت أجواء الجماهير الشعبية في العالم العربي وأثلجت صدور نخبها السياسية الطامحة إلى التغيير. * وقد تبدو هذه المفارقة بمنطق الوعي السياسي والفكري السائد مفارقة غير مقبولة إلا أنها ستظل ضرورية باعتبارها أحد أهم وسائل النفاذ إلى صميم الإشكال وكنه التحدي. * فهل سأجد من يوافقني هذا الرأي رغم نشوة الشعور بالإنتصار؟ .