بعد أن حالفني الحظ وشاهدت مستمتعا الاستطلاع الإشهاري على قناتنا الأرضية الفضائية المحبوبة عن مطار العاصمة الدولي في طبعته الجديدة اجتهدت كثيرا لكي أكون ضمن مستعمليه في شهره الأول، وقد ماطلت كثيرا لإرجاء سفري بعد أن قرأت أن موعد تدشين المطار الجديد قريب، وفرحت كثيرا أن معالي الوزير وأهل الوزارة لم يكذبوا علينا هذه المرة، مثلما فعلوها مع صاحب الفخامة. خضير بوقايلة كان التقرير التلفزيوني الإشهاري حافزا لي (وللآلاف أمثالي دون شك) لكي نقرر السفر عبر هذا المطار التحفة الذي لم يبخل فخامته عليه بقصقصة شريط يوم الدخلة، وكان عرسا كبيرا في القرية ولم يقصّر التلفزيون في نقل وقائعه للقاصي والداني. ولا أكذبكم أن أكبر محفز لي لتنظيم سفري لم تكن تلك الحملة التي رافقت إنجاز وتدشين هذه اللؤلؤة المرصعة على جبين عاصمة بلد المعجزات، ولا الجدل الذي رافق المشروع من أيام ولاية أحمد بن بيتور، بل هو سؤال واحد طرحه معد التحقيق (لعل طلبة الإعلام والمختصين يلاحظون ارتباكي وأنا أبحث عن تسمية لما عرضه التلفزيون في الأمسية التي تلت تدشين المطار، والحق أنني عاجز عن تصنيفه، هل هو استطلاع أم تقرير أم تحقيق؟ أعدكم أنني سأعيد مراجعة دروسي لأجد الجواب) على شاب وصل لتوّه إلى المطار الجديد وقيل لنا إنه مغترب في فرنسا. نص السؤال كان: "هل سبق لك أن شاهدت مطارا مثل هذا؟"، انتهى السؤال وتحولت الكاميرا إلى الشاب لالتقاط الجواب، وكان الجواب حركة استفهام كبيرة تعبر عن ارتباك الشاب المسؤول، وكانت تلك حركة كافية للشاب السائل لكي يوضّح له السؤال أكثر ويخبره أنه يريد أن يعرف إن كان شاهد مطارا مثل هذا في الجزائر، وهنا زال الحرج عن الشاب المغترب وشكر سائله في قرارة نفسه ومضى في الحديث. تمنّيت لو أنني كنت مكان ذلك الشاب المغترب حتى أرد على السؤال في صيغته الأولى من دون حرج ولا إحراج، خاصة بعد أن رأيت بأم عيني هذه التحفة الثمينة. كنت سأرد مباشرة أنني لم أشاهد في حياتي مطارا مثل هذا. نعم رأيت مطارات أوروبية كثيرة ومطارات عربية وخليجية أخرى ومطارات إفريقية ومغاربية، لكنني لم أر مطارا مثل مطار مغلاوي أبدا. مطار يستحق الملايير التي صُرفت عليه وأكثر، ويستحق الجدل الذي ثار حوله وأزيد، ويستحق زيارة تفقدية وأخرى تدشينية لصاحب الفخامة وأكثر، بل يستحق زيارات وزيارات وفود عن مسؤولين في مطارات غربية وخليجية وعربية للوقوف على عظمة الإنجاز الذي استغرق عقودا من الزمن حتى يخرج علينا في شكله الحالي، وأنا فعلا أتخيل حسرة أصحاب الفخامة السابقين من الشاذلي إلى كافي إلى زروال وهم يضيعون فرصة تدشين هذا المعلم الحضاري العظيم، لكن ذلك كان من تقصيرهم، لأنهم لو فعلوا مثل ما فعل خليفتهم لنالوا شرف تدشين تحفة الزمان. رأيت هناك العاملين في مطار مغلاوي مبتهجين وفي حلل زاهية وهم يستقبلون ضيوف البلد الذاهبين والرائحين، كل شيء يلمع داخل المطار، والبريق يلاحق المسافر في الجو. سمعت أحد المسافرين يسأل رجلا من الجمارك إن كان في المطار مكان أو خيمة تأوي إخواننا الذين يقصدون المطار لانتظار أهاليهم أو ذويهم القادمين من الخارج، فكان رد عون الجمارك غضبة مضرية أعقبها بالقول "وهل صرفنا كل تلك الملايير لكي يبقى الناس ينتظرون في الخارج؟!"، ورغم ذلك لا أخفيكم أن أخي عبد الله لم يكن في مستوى الحدث، لأنني وجدته ينتظر خارج المطار وقال لي إنه كان يعتقد أن الناس لا يزالون ممنوعين من دخول المطار وغضبت أنا أيضا لهذا الإسفاف واللامبالاة الصادرين عنه. وحكى لي أن صديقا قدم قبل أسبوع أخبره أن التخريب بدأ يطال تجهيزات هذه التحفة المغلاوية وذكر له أن رؤوس حنفيات أحد الحمامات قد اختفت، فرددت عليه على الفور أن هذا مجرد افتراء، لأنني سمعت قبل قليل فقط زوجتي وهي تثني على المطار وعلى حنفيات الحمام بصورة أخص وقالت لي إنها حنفيات تشبه حنفيات مطار فرنسا تطلق الماء بمجرد أن تقرب منها يديك وتتوقف تلقائيا بعد ذلك. لن أطيل في المديح، لأن التحقيق التلفزيوني تكلم فأوفى، لكن أكتفي هنا بسرد لقطات مررت بها وأنا أجوب بعض أرجاء التحفة الثمينة. - وقفت في آخر طابور مراقبة الجوازات أنتظر دوري وأراقب ما يجري، وكانت في أول الطابور الأيمن سيدة متحجبة مع زوجها وأولادها، لم أسمع شيئا مما كان يدور بينهما وبين مراقب الجوازات، لكنني فهمت من حركاتهم أن الشرطي يريد أن يتأكد من أن الصورة على جواز السيدة مطابقة لوجه السيدة المتحجبة، لكن الزوج رفض أن تكشف له زوجته عن وجهها، فما كان من عون الأمن إلا أن رفض ختم جوازها وطلب منها التنحي جانبا للسماح للمسافرين الآخرين بالمرور. وهنا كشفت السيدة عن صوتها وقالت إنها لن تكشف عن وجهها وإنها لم تضع النقاب حتى يتفرّج عليها الرجال، وطلبت أن تحضر امرأة لتتأكد من هويتها. تركنا العائلة هناك وخرجنا بعد أن مررت أنا عبر شباك آخر وشاءت الصدفة أن تمر زوجتي من هناك من دون أن يشترط عليها الموظف هناك الكشف عن وجهها. - توجهت إلى أول هاتف عمومي لأتصل وأسأل عن من جاء لاستقبالي، فوجدت الأجهزة الجديدة تعمل بالبطاقات، وكان مكتوبا على لافتة هناك أن البطاقات متوفرة على مستوى مكتب البريد، سألت عن مكتب البريد ووصلت إليه، لكنه كان مغلقا، وكانت الساعة نهارا.. دلوني على محل بيع الصحف تتوفر فيه تلك البطاقات، أعطاني البائع بطاقة وطلب مقابلها 200 دينار، فقلت له أريد فقط أن أجري اتصالا واحدا محليا وليس 20 اتصالا، فرد علي أن هذا كل ما هو متوفر وأن بطاقات المائة دينار نفدت. توكلنا على الله وذهبت مع آخرين لإجراء الاتصال من هذه الآلات العصرية، لكن كانت المفاجأة أننا عجزنا عن تخطي عقبة الاتصال بالرقم الداخلي المطلوب قبل إدخال رقم البطاقة السري والاتصال بالرقم المراد. قلنا لعلنا جاهلون بالأمور التكنولوجية، رغم أننا استمعنا إلى وصية البائع وهو يطلب منا قراءة التعليمات وراء البطاقة جيدا والالتزام بها. عدنا إليه معترفين أننا لم نفلح في حسن التعامل مع هذه التكنولوجيا الهيشورية، فبعث معنا أحد أعوانه العارفين بشؤون الاتصال، فحاول وحاول وحاول وأعاد المحاولة، لكن في كل مرة كان الإخفاق يلاحقه، واعترف لنا في النهاية أن هناك خللا في الآلات وقال ربما لم يصل أعوان الهاتف إلى مكاتبهم لإطلاق الخدمة. استنجدت بصاحب أحد المحلات واتصلت من هاتفه بأخينا عبد الله الذي كان يحوم حول المطار بسيارته معتقدا أن الدخول إلى المطار لا يزال محرما على البسطاء من الناس مع علمه أن المطار الجديد صُرفت عليه المليارات. وأنا خارج مررت على مكتب أحد البنوك وكانت أبوابه موصدة، والتفت إلى جهاز التوزيع الآلي قربه، فوجدت أنواره مطفأة، فحمدت الله أنني لم أكن في حاجة إلى المال في تلك اللحظة، وخرجت وأذني لا تفارقهما عبارات المديح والثناء على مطار الجزائر الجديد الذي لا يشبهه أي مطار في العالم.