رغم الأدبيات العديدة التي تريد أن تجعل من "ثورة الياسمين" حدثا لا مثيل له في التاريخ، فإن تونس تعيش مرحلة انتقالية كلاسيكية جدا، تتوفر فيها المعطيات التقليدية التي عاشتها بلدان كثيرة، كما تتصارع فيها نفس القوى الاقتصادية والسياسية المعهودة، في نفس الجو الذي يتميز بالاضطراب والفوضى. * وإذا أعطت تونس أول مثل لحاكم عربي يغادر السلطة إثر احتجاج الشارع، فإن ذلك لا يغير المعطيات الأساسية للأزمة، مما يفرض على القوى السياسية في تونس أن تدرس التجارب المماثلة سواء نجحت أو فشلت، وأسباب فشلها. * ويمكن أن نؤكد الطابع التقليدي للمرحلة الانتقالية في تونس من خلال الميادين التي يجب أن يشملها التغيير، والقوى المشاركة في العملية. أما عن طبيعة التغيير، فإن تونس تريد الخروج من نظام سياسي متسلط إلى نظام ديمقراطي، وهو التغيير الذي من المفروض أن يتم في مرحلة متأزمة ومضطربة. ومن نقاط الضعف التي تعيشها تونس ضعف التنظيمات السياسية التي من الممكن أن تشكل بديلا للسلطة القديمة، بسبب الاضطهاد الذي كانت تعاني منه المعارضة منذ عقود طويلة. * أما في الميدان الاقتصادي، فإن تونس مضطرة للخروج من نظام كانت تسيطر عليه مجموعات تنتمي إلى العائلة الحاكمة أو كانت مقربة منها، لتبني اقتصادا يكون أكثر شفافية ومطابقة لقواعد التسيير العصرية. وسيشكل التخلص من عائلة الرئيس السابق زين العابدين بن علي فرصة لدفع الاقتصاد، لأن الجو السائد في عهد الرئيس السابق كان يفرض على كل المتعاملين الاقتصاديين الخضوع إلى العائلة الحاكمة، مما يعرقل الاستثمار ويشكل عائقا أمام عملية النمو. * وبالمقابل، ستعاني تونس اقتصاديا في المرحلة القادمة، لأن عدم الاستقرار، ولو مرحليا، سيؤدي إلى تراجع اقتصادي، خاصة وأن قطاعات كثيرة ومهمة في الاقتصاد التونسي مثل السياحة تتأثر مباشرة بعدم الاستقرار. إضافة إلى ذلك، فإن الشكوك التي ستحوم حول مستقبل البلاد ستدفع المستثمرين إلى الحذر الكبير. * ورغم كل هذه المؤشرات السلبية، فإن تونس لا تنطلق من العدم. إنها تتوفر على نخبة سياسية رغم قلتها، وعلى طبقة متوسطة رغم ولائها التقليدي للسلطة، وقطاع اقتصادي خاص رغم ارتباطه بالسلطة السابقة. وحتى في صفوف الحزب الحاكم وفي الإدارة السابقة، توجد فئات كثيرة كانت تقوم بواجبها لا بسبب ولائها للسلطة بل بفضل موقعها، ويمكن أن تشكل نفس الفئات قوة ارتكاز لنظام جديد. * أما عن القوى الفاعلة خلال المرحلة الانتقالية، فإنها لا تختلف عن معظم البلدان التي عاشت نفس التجربة، من القوى الخارجية التي لها دور أساسي، إلى الشارع الذي فجر الوضع في تونس، مرورا بقوى المعارضة التي تتميز بضعفها المرحلي والتيارات التي كانت تخضع إلى النظام السابق وهي تبحث لنفسها عن دور جديد. ولعل ما يميز الوضع في تونس اليوم هو الدور الأساسي الذي ستلعبه القوى الخارجية، مثل فرنساوالولاياتالمتحدة، رغم أن الوضع الحالي يفرض عليها صمتا وتحفظا كبيرا بسبب تواطئها مع النظام السابق. ويشمل ذلك كل القوى الأخرى التي يؤثر عليها الوضع في تونس، مثل الجزائر وإيطاليا وليبيا ومصر وغيرها. * وكعادته، لم يضيع الزعيم الليبي معمر القذافي الفرصة لينطق كفرا بالإعلان عن مساندته للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، في وقت أعلنت القوى التي كانت تساند فعلا النظام السابق عن حسرتها واعتذارها للشعب التونسي. وتكسب ليبيا أوراقا حقيقية للتأثير على الوضع في تونس، لكن سلوك القذافي يهدد بإتلافها دون فائدة. وقال أستاذ بمعهد العلوم السياسية إن كلا من الولاياتالمتحدةوفرنسا وليبيا والجزائر، وعكس ما جاء في خطابها السياسي، ليس لها مصلحة في تحويل تونس إلى بلد ديمقراطي، لأن ذلك سيهدد مصالح ومواقع غير مشروعة. وهذا يضع نقاط استفهام كثيرة حول مستقبل التجربة الديمقراطية التونسية. * ويزيد تعقيد الوضع في تونس لما نعرف أن السلطة السابقة لم تقم بتحضير المرحلة الانتقالية، وأن الحكومة الحالية ليست مهيأة لتقود العملية، وأن المعارضة التي كانت مقهورة لم تتمكن بعد من إقامة بديل حقيقي للسلطة القائمة. ويبقى الشارع الذي فرض الوضع الجديد في تونس يبحث عن القوى السياسية التي ستكرس مطالبه. * وأمام هذه القوى المتصارعة حول مصالح متناقضة، يجد الجيش التونسي نفسه في وضع لم يكن مهيئا له. ويكسب الجيش التونسي ورقة أساسية تتمثل في سمعته الطيبة لأن النظام التونسي كان يرتكز على البوليس لا على الجيش. إضافة إلى ذلك، فقد رفض قائد أركان الجيش أن يشارك في قمع المتظاهرين، وفرض على الرئيس بن علي أن يتخلى عن السلطة، مما أعطاه شرعية جديدة غير معهودة في تونس. هذا الوضع الجديد يفرض على الجيش التونسي أن يعمل بسرعة للوصول إلى نظام جديد يضمن الأمن والاستقرار، ويفتح المجال أمام مشروع وطني جديد يعطي مكانة للتيارات الكبرى. ويتضح ثقل مهمة الجيش التونسي لما نعرف أنه سيضطر إلى تحمل مسؤولية الوضع في حالة الانفلات إذا فشلت التجربة الديمقراطية. وهذا ما يؤكد أن ما تعيشه تونس، ورغم استقالة الرئيس السابق، وضع انتقالي تقليدي سواء في طبيعة المرحلة أو القوى الموجودة على الساحة أو النتائج المحتملة لهذه المرحلة الانتقالية.