الظاهر أن أهم ما يميز الحياة السياسية في البلاد هي تلك الحرب في صفوف جبهة التحرير الوطني، وتصريحات مسؤولين سابقين منهم رؤساء حكومة، وجمود التجمع الوطني الديمقراطي، والتصريحات المثيرة للسيد سعيد سعدي، والهجمات اللاذعة ضد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورئيس الحكومة. وتوحي هذه الظواهر أن المشهد السياسي الجزائري تحرك بصفة قوية هذا الشهر، مما يبشر بعاصفة في الخريف بعد سبات مؤلم دام طوال الصيف. واستكمالا للصورة، يعيش أحد الأحزاب، وهو الجبهة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها موسى تواتي، يعيش هذا الحزب نزيفا لا مثيل له حيث يغادر صفوفه العديد من المنتخبين، بينما تبقى أغلبية الأحزاب الأخرى تكتفي بمتابعة الأحداث دون أن تؤثر عليها. وتتويجا للعملية، جاءت الحركة التصحيحية الموسمية في صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، وتحركت شخصيات يقال عنها إنها من الوزن الثقيل من أمثال عبد الرزاق بوحارة وصالح قوجيل، لتطالب بإعادة إصلاح ما يسمى بالبيت العتيق. ووصلت الخلافات في جبهة التحرير مستوى غير معهود. وقال عضو في قيادة الجبهة إن المواجهات التي يعاني منها الحزب في الأسابيع الماضية قد شهدت استعمال أسلحة بيضاء وتهديدا باستعمال المسدسات من طرف مسؤولين في الحزب، إلى جانب عملية رشوة واسعة للمناضلين للحصول على مساندتهم، وهي العملية التي تكون قد تجاوزت كل ما عرفه الحزب لحد الساعة، والله يعلم أن جبهة التحرير قد عاشت الكثير من المناورات... وإضافة إلى هذه الحمى السياسية، تعرف البلاد غليانا اجتماعيا، مع الإضراب التقليدي في مصنع الحجار، والاضطرابات التي تعيشها العديد من المؤسسات، و"قطع" الطرق من قبل مواطنين متذمرين من أوضاعهم الاجتماعية، والتهديد المتكرر باشتعال الجبهة الاجتماعية. وأمام هذا الغليان السياسي والاجتماعي، تبقى الحكومة وكأنها مكتوفة الأيدي، حيث أنها لا تبادر ولا ترد، بل تكتفي بتلقي الضربات وتسجيل الهزائم. وقد تعودت الحكومة على هذا السلوك منذ عقود طويلة، فهي لا تعرف كيف تسطر المشاريع ولا كيف تنفذها. أما بالنسبة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فإن ما هو معروف من نشاطه يبقى نادرا في بلد يحتاج إلى وجود قوي للدولة وممثليها، كما يحتاج إلى مبادرات قوية ومتنوعة. ويقتصر نشاط رئيس الجمهورية على لقاءات على شكل ألغاز حول تقييم نشاط الوزراء خلال شهر رمضان، والقليل من النشاطات الدبلوماسية التي تكاد تتحول إلى مجرد نشاطات بروتوكولية. وأدت هذه المعطيات، من غياب لرئيس الجمهورية وغليان سياسي، أدت من جديد إلى بروز إشاعات سياسية، كما دفعت "الخبراء" و"المحللين" إلى البحث عن أسباب ومعاني هذه الحمى التي أصابت البلاد. وقال البعض إن البلاد تعيش نهاية فترة تاريخية، وأن مختلف الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية تعمل لضمان مكان لها لما تبدأ إعادة توزيع الأوراق، بينما يقول آخرون إن ما يحدث لا يتعدى أن يكون مرحلة بسيطة في إطار حرب العصابات التي تشكل المحرك الأساسي للحياة السياسية في البلاد... ويتساءل آخرون هل أن الرئيس بوتفليقة استطاع أن يفرض رأيه على حساب الجيش، وهل أن الجيش سيعود إلى الحياة السياسية إذا تدهورت الأوضاع السياسية... وكثرت الخرافات مع بداية الخريف، وتحركت آلة اختراع السيناريوهات المعقدة التي تشرح كيف ولماذا سيحدث ما لن يحدث، وتم تقسيم الأدوار بين الرئيس بوتفليقة والجيش وما تريده السفارات الأجنبية. وأصبح هذا الكلام دواء يتداوله العامة والخاصة لينسوا حقيقة بسيطة جدا: إن الجزائر لا تعرف نشاطا سياسيا، والعمل السياسي ما زال محرما، والنظام يحتضر لكنه لم يمت، وإن كان عاجزا عن تسطير مشروع سياسي، فهو قادر على منع أي مشروع من الوجود. وفي هذا الجو، صنعت الجزائر حياة سياسية خيالية بعد أن عجزت أن تصنع حياة سياسية حقيقية. وبدل عملية تصحيحية في الحياة السياسية، اختارت الجزائر أن تقوم بعملية تصحيحية لا فائدة منها في صفوف جبهة التحرير.