صناعة دول لقبائل العرب بمواقع الفيس بوك عشرة أيام من الانتفاضة المصنعة للشعب المصري في مواقع الفيس بوك كانت كافية لتوصيف الحرب التي يواصلها حسين باراك أوباما على الكيانات العربية، لكنها لم تكن كافية لترحيل زعيم عربي آخر انتهت مدة خدمته، وأريد له أن يرحل شعبه في موكب شماتة، في يوم من أيام أعياد المسلمين، قبل تنصيب الدولة التي تصنع اليوم لقبائل العرب بمواقع الفيس بوك. * بصرف النظر عما كان سيحدث يوم الجمعة الذي عمد كيوم الخلاص، فإن خواتم الأمور كانت مبرمجة في بدايتها، ولأن البدايات كانت محاطة بأجواء ضبابية، ومناطق رمادية حجبت منذ البداية الرؤية، فإن أحداث يوم الجمعة تبقى مجرد تفصيل، لن تضيف للمعرفة قطميرا، حتى وإن كان آخر خبر أخذته في الحسبان وأنا أختم هذا المقال فجر الجمعة يقول إن الإدارة الأمريكية تتشاور مع المصريين لترتيب نقل السلطات من مبارك إلى نائبه عمر سليمان، كان قد سبقه لقاء مزعوم بين مبارك وشبكة سي بي إيس يقول إن مبارك قد أعرب عن استعداده للرحيل لولا خشيته من الفوضى واستيلاء الإخوان على السلطة. * * "البروفا" في تونس قبل العرض الكبير بمصر * في الحالة التونسية، كانت البداية مع المظاهرات في بعض مدن الجنوب عقب انتحار الشاب البوعزيزي الذي لم يكن يحمل بواكر الأحداث القادمة التي انتهت برحيل وفرار الرئيس بن علي، وصعب على المحللين الالتفات إلى اللاعبين الحقيقيين، حتى وإن كانت الأحداث اللاحقة قد كشفت بعضهم، يتصدرهم تحديدا الدور المؤثر للولايات المتحدة، وانتهى الأمر إلى تشكيل صورة مفجعة، لعملية عبث بلا حدود بالشعوب، بالعقول، ونكتشف عشية اندلاع الأحداث في مصر، أن تونس كانت محض "بروفا" لسيناريو المسرحية التي نتابع اليوم فصولها في مصر. * ولأن مصر كانت منذ البداية هي ساحة الحسم لعملية إنزال أمريكي جديد على المنطقة العربية، يفوق في حجمه وتداعياته الجيواستراتيجية ما حصل في العراق، فإنه لم يكن في وسع اللاعب الرئيسي، وقائد "الحملة" أن يتستر كما فعل في تونس، لأن مبارك الذي اكتشف في وقت متأخر أن "الأخ الأمريكي الكبير" إنما يريد رأسه تحديدا، قد صمد، ورأيناه يقاوم بطرق مشروعة، وطرق غير محمودة، فإنه قد سمح لنا بالنظر إلى الصورة الكاملة، وحتم على الإدارة الأمريكية أن تخرج بوجه سافر، لتقول لرئيس عربي خدمها، وخدم مصالحها أكثر من أي زعيم عربي آخر: يا رايس لم تعد صالحا للخدمة، وعليك أن ترحل الآن، ونكتشف مذهولين إدارة أمريكية متعجرفة توجه أوامر مباشرة للجيش المصري، وتحدد أمره اليومي. * ربما أكون قد صدمت القراء بموقفي مما سمي بالثورة الشعبية في تونس، وصدمتهم أكثر بموقفي من أحداث مصر في مقالة الأسبوع الماضي، التي حاولت فيها التقاط الأجزاء المتناثرة من الصورة الكاملة، عن عملية كبرى تنفذ بتسارع كبير يمنع الرؤية مشروعا انقلابيا واسعا داخل العالم العربي، سوف ينتهي باستبدال أحصنة نافقة بأحصنة جديدة قابلة للتسويق، وسوف ينتهي بصفقة هي الأخطر على الإطلاق على العالم العربي، نرى فيها قوى إسلامية ووطنية لا شبهة عليها تسلم الدور الذي لم تعد أنظمة الاعتدال الوفاء به. * * الوجه الآخر لثورة الفيس بوك * كانت هذه هي الخلفية التي تابعت بها أحداث تونس، وأسترشد بها اليوم في متابعة أحداث مصر. * وسواء تقبل مني القارئ صحة هذه الخلفية أم لا، فإني أدعوه إلى استنباطها بنفسه من متابعة تدافع الأحداث الجارية منذ عشرة أيام في مصر، مشترطا عليه أن يتخذ مسافة آمنة من الأهواء ومن مشاعر التعاطف المشروعة مع المنتفضين، ويخضع كل صورة وكل خبر، وكل تعليق، وكل تحليل لحسه النقدي. * لنبدأ بتحرير المشهد الأول، المشهد الافتتاحي لما حدث في تونس ومصر، والذي يسوق لنا على مدار الساعة في الفضائيات، ويراد لنا أن نسلم به كأساس يشيد عليه كل ما سيأتي: "مجموعة من الشباب المنخرط في الشبكات الاجتماعية بمواقع الفيس بوك وتويتر، تمكن من إنتاج ثورة شعبية استطاعت أن تحرك الملايين من المصريين إلى ميدان التحرير، وميادين أخرى بالمحافظات المصرية، هزت أركان النظام المصري، وقادته إلى حافت الهاوية" وهو ما حصل فعلا، وإذا ما صدقت هذه المسلمة، فإنه كان ينبغي لأحداث مماثلة استندت إلى نفس الوسائل، جربت في تحريك الشارع الإيراني، وحشدت في الشوارع الإيرانية أكثر مما احتشد في مصر، وكان للانتفاضة قيادة معلومة تصدرها أقطاب التيار الإصلاحي أمثال موسوي وخاتمي، وكروبي، بينما لم تفرز "الثورة" الدائرة في مصر أية قيادة معلومة بوسعها أن تصنع أفقا سياسيا للثورة. * * كيانات فضائية موجهة لغزو ميدان التحرير * أخطر من ذلك، أن الجهة المديرة لهذه "الثورة" قد تعمدت إنزال زعامات صنعت للتو، مثل السيد البرادعي، وأغرت الإخوان المسلمين، القوة المعارضة الوحيدة التي تمتلك الخبرة التنظيمية والتمويلية، والتي اقتاتت عليها الانتفاضة حتى اليوم. كما أقحمت في ميدان التحرير أخلاطا من الأحزاب القومية واللبيرالية واليسارية، وفلولا لجمعيات تغطي الطيف بالكامل، حتى أن المشهد بميدان التحرير بات أشبه بسوق عكاظ، أو بالأحرى بقلعة بابل، كل قبيل يرطن بلسان، لأن الجهة المديرة ل "الثورة" تريد منها أن تنجز المهمة: إسقاط مبارك في الشارع بدلا عن المعسكر، ولا تريد لها أن تتحول إلى ثورة شعبية حقيقية تحدث التغيير في بلد، له الموقع والدور الاستراتيجي لمصر في هذه المنطقة المعقدة والحساسة من العالم. * المشهد الثاني يقودك حتما إلى ذلك الانزال المتناغم للقنوات الفضائية، سوف أقف عند القنوات الناطقة بالعربية منها تحديدا، وهي ست فضائيات: العربية والبي بي سي وقناة العالم الإيرانية، وقنوات الجزيرة الثلاث، التي سوف تستفيد في وقت لا حق من تحول قنوات عربية غير إخبارية، أو أخرى غير قادر على التواجد الميداني، أن تتحول إلى ملاحق لمحطة الجزيرة. الفضائيات كانت تعمل وكأنها فروعا لقناة واحدة، يوجهها قائد أوركسترا، مع تقسيم واضح للأدوار. في هذا المشهد رأيت سقوطا مدويا للمهنة التي انتسب إليها، رأيت قناة مثل الجزيرة التي بنت عبر عقد من الزمن مصداقية حقيقية لدى الرأي العام العربي، وكانت تعلي شعار الرأي والرأي الآخر، رأيتها تسقط بلا حياء إلى موقف الطرف الموظف المحرض بطرق مشروعة وأخرى غير محمودة، وكأنها هي التي تقود "الثورة". * * الأسئلة الغائبة عند نخب غيبت الحس النقدي * المشهد الثالث: تم فيه إنزال شريحة واسعة من رجال الدين والفكر والسياسة والإعلام، أغلبهم من الذين خاطبوا الشعوب العربي في العشرية الماضية من موقف قومي وإسلامي واكتسبوا مصداقية عند الرأي العام العربي، رأيتهم يتدافعون إلى مقدمة خشبة المسرح يؤدون مجموعة من الأدوار التي يستحي منها حتى العتاة من مثقفي الحزب الواحد. لا شك عندي أن الكثير منهم دخلوا المشهد صادقين، تحركهم مشاعر من يعتقد أنه أمام ثورة شعبية عربية عذراء توجب أكثر من التأييد، لكن المشاهد الحذق يكون قد وقف مندهشا أمام عملية التوظيف التي انساق إليها رجال الدين ودعاة أجلاء، ومفكرون من صفوة الصفوة العربية، وقد جردوا أو جردوا أنفسهم من الحس النقدي، وتفاعلوا مع الأحداث كما تتفاعل معها العامة. أسماء لامعة محترمة، مثل الدكتور عزمي بشارة، وسليم العوة، وهويدي، وهيكل، وكثيرون تهالكوا داخل "ظاهرة صوتية" سقط فيها العقل التحليلي الناقد، حتى أنه لا أحد منهم لم يسأل أسئلة مشروعة مثل: * 1- لماذا استهدفت الانتفاضة رأس النظام المصري منذ البداية في سلوكه الاستبدادية وفساد السلطة وما إلى ذلك من المآخذ الحقيقية، ولم يرفع شعار واحد يؤاخذ النظام بجريمة إخراج مصر من الصف العربي، وحمايته لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وعن مشاركته في حصار غزة وتجويع شعبها؟. * 2- لماذا لم تلق حجارة واحدة على السفارة الإسرائيلية، ولم يرفع شعار واحد معادي لإسرائيل أو لأمريكا، مع علمنا بتواجد مكثف للإخوان المسلمين والناصريين والقوميين في الانتفاضة؟ * 3- لماذا لم يرتفع صوت واحد من داخل الانتفاضة، أو في وسط هذه النخبة المؤيدة للانتفاضة ليقول لإدارة أوباما ليس لك الحق في تقرير متى وكيف ينبغي للشعب المصري أن يتخلص من هذا الحاكم، وليس لك الحق أن توجهي أوامر مباشرة للجيش المصري؟. * 4- لماذا لم تتساءل هذه النخبة عن سر حصول ذلك التوافق والإجماع الدولي وجوب حول رحيل مبارك الآن، بلسان واحد من طهران إلى تل أبيب، ومن أنقرة إلى واشنطن مرورا بأغلبية العواصم الغربية؟ * 5- لماذا هذا الفصل بين الأنظمة في تونس ومصر والمؤسستين العسكريتين؟ ولماذا كان ينبغي أن يرحل بن علي، ولا يرحل قائد الجيش التونسي، أو يرحل مبارك القادم من العسكر، ولا يرحل المشير طنطاوي أو اللواء عمر سليمان، وهما شركاء في صناعة قرارات النظام؟ * * الشماتة برؤساء العرب في أعياد المسلمين * بوسعي أن أطرح عشرات الأسئلة التي غيبت في خضم هذه الظاهرة الصوتية، التي لم تعد تسمح لنا التمييز بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين الموقف الإيراني والإسرائيلي والأمريكي، وكأن الجميع قد انتسب في هذا المشهد إلى حزب واحد متعطش لرؤية واحد من المشهدين: * مشهد رئيس أكبر دولة عربية وهو يستقل طائرة بحثا عن ملاذ آمن كما حصل لبن علي، والأفضل أن يكون الترحيل في يوم من أيام أعياد المسلمين، أو صورة مفجعة لأرض الكنانة وهي تدخل حربا أهلية مفتوحة، جميع عناصرها متوفرة الآن في مصر، مع مليون ونصف مليون منتسب لشرطة أصبحت على قطيعة مع الشعب المصري، وميليشيات لأرباب المال والأعمال الذين تتوعدهم الانتفاضة، والملايين من الجياع في العشوائيات المطوقة للمدن المصرية، والمغيبة حتى الآن من قبل النظام ومن المنتفضين على السواء. * بهذه المشاهد الثلاثة التي أردت أن أضعها بين يدي القارئ، ليستنتج بنفسه ما ينبغي له أن يستنتج من مواقف وأحكام، أدعوه إلى مراجعة وفحص مواقف وسلوك الأطراف التي تتصارع بأرض الكنانة، في حرب لا تختلف عن الحرب التى فتكت بالعراق، لكن بأدوات وآليات جديدة تفي بالغرض نفسه، وبأقل كلفة للجهة التي تدير هذه الحرب على الشعب المصري، قبل أن تكون موجهة ضد حسني مبارك الذي أصبح رحيله من عدمه محض تفصيل ليس إلا. * * بوكر أمريكي برهانات عربية * أطراف ثلاث تتصارع منذ عشرة أيام في معارك طاحنة، بعضها التقطته الفضائيات في ما يجري في الشارع وتحديدا في ميدان التحرير، وأخرى اعنف منها جرت وتجري في الكواليس، قوامها اللعب بأوراق الضغط، ولغة المساومة. * الأطراف الرئيسية الثلاث هي الولاياتالمتحدةالأمريكية التي دخلت اللعبة بجميع مؤسساتها، وأدواتها، وملاحقها في الإعلام والانترنت، وشبكة معقدة من المجاميع النخبوية، التي جندت هذه المرة في أوساط فكرية متساوقة مع مشاعر وتطلعات الشعوب العربية. أما الطرف الثاني، فهو الرئيس المصري، والحزب الحاكم وملاحقه في الجهاز الأمني والإداري لم يقرأ حقيقة ما فعل بصاحبه في تونس فدخل المواجهة يتلقى النيران الصديقة من الاتجاهات الأربع ولا يعرف كيف يرد. أما الطرف الثالث فهو المؤسسة العسكرية المصرية التي رأيناها تنفذ الدور الذي لقن لقادتها قبل أيام بواشنطن، وتلعب دور المؤسسة التي يخطب ودها الجميع ويشيد بها المتصارعون. أما المنتفضون، بما في ذلك القوى السياسية التي لحقت بهم، ومنها الإخوان المسلمون، فقد كانوا في جميع فصول المسرحية وللأسف محض كومبارس، بيادق تحرك فوق لوح الشطرنج، وعساكر انكشارية تحرك فوق أرض المعركة. * * قميص "الإخوان" يقد من قبل * حركة الإخوان التي تعرضت في حياتها لحالات إغواء وخداع في ثورة يوليو، ثم في اغتيال السادات الذي فتح أبواب الرئاسة لمبارك، انساقت هذه المرة لنفس الإغراء والخداع، وسوف تكون الخاسر الأكبر في اللعبة القذرة. فقد استعملت كحامل الحطب الذي لولاه ما كان لانتفاضة "الفيس بوك" أن تصمد ساعة أمام مفرزة واحدة من الشرطة المصرية، وأريد لها أن تتم الجميل بتنظيم وقيادة المشهد الختامي الذي ترك لها أن تعمده بجمعة الرحيل، وهي لا تعلم أنه ربما يوم ترحيلها من المشهد المصري لعقود، إلا إذا ارتضت قيادتها أن تحول شبكة الإخوان إلى شبكة اجتماعية وسياسية لرجل أمريكا القادم لحكم أم الدنيا، والتسوية مع أبناء العم إسحاق، قد يكون حامل جائزة نوبل في الكيمياء السيد أحمد زيل. * واضح أن الولاياتالمتحدة هي الطرف الذي كان مهيئا للمعركة ولعمليات الإنزال التي أشرت إليها من قبل، بخطط واضحة وتوقيت، وإدارة يؤطرها كوكبة من خيرة العقول الأمريكية التي جمعها الرئيس أوباما في البيت الأبيض لإدارة "الثورة" التي لم تكن لتسمح لا للإخوان المسلمين، ولا حتى لشباب الفيس بوك أن يقودا وينجحا في تفجير ثورة شعبية، وتوليد حركة تغيير تنتهي بنظام ديمقراطي يعيد للشعب العربي المصري سيادته على أرضه ودولته وقراره. * * جنود سليمان لحماية معاهدة داوود * ما هو مؤكد عندي حتى قبل أن أتعرف على نتائج فعاليات يوم الجمعة، أن الفائز الأكبر هو المؤسسة العسكرية المصرية التي دخلت اللعبة بذكاء، وتحملت بكثير من الصبر ضغوط الإدارة الأمريكية وضغوط الشارع المنتفض وضغوط الشارع والقوى الموالية لمبارك، وقادت الجميع إلى حيث تريد. فقد انتزعت من مبارك التخلي عن الترشيح، وإسقاط مشروع التوريث الذي كان يدار خارج إرادتها، وانتزعت نيابة الرئيس التي تسمح لسليمان بمواجهة أي طارئ في الأشهر القادمة، وتطمئن أبناء العم إسحاق على معاهدة معسكر داوود.