في واحدة من الاحتجاجات التاريخية الكبيرة التي ارتقت إلى مستوى ثورة، أقدم الشعب المصري على امتلاك زمام المبادرة، فتحرك ضمن نمط غير مسبوق على الأقل في مصر بأن تجاوز الأحزاب والقوى السياسية في الخطاب والقدرة على الحشد والإدارة والتطور والتخطيط، وكان لتميز هذه الثورة وقدرتها المتنامية على التأثير في الجبهة المضادة دور في تنافر التحليلات السياسية وتنامي ظنون حول الجهات التي تقف وراءها.. * فمن قائل إن الإدارة الأمريكية هي من هيأت الظروف لانطلاق الثورة، وهي بهذا البعد تحقق استراتجية أمريكية، لاسيما ومعظم القوى السياسية المصرية المعارض منها والمؤيد ذات صلات مع الأمريكان علنية وسرية..إلى قائل بأن الأمريكان آخر من يعلمون بما يجري في أوساط الشعب من تحولات وتطورات وما يدور فيه من حراك سياسي، وهنا يصبح التحليل المنطقي والموضوعي مسألة ضرورية لفهم ما يجري وإلى أين تذهب المآلات. * * الاستراتيجية الأمريكية نحو المنطقة * من الضروري تتبع المواقف الأمريكية العملية والنظرية لتبين حقيقة الاستراتيجية الأمريكية نحو المنطقة والعالم ..فمنذ عشرات السنين يتحرك الأمريكان بمنهجية التسيد على العالم التي حققت بعد الحرب العالمية تقدما جوهريا في الوجود من خلال أساطيلها وقواعدها العسكرية في أوروبا وآسيا بحجة التصدي للكتلة الاشتراكية، وفي ظل سباق التسلح بين القطبين الدوليين آنذاك استطاعت المصانع الحربية الأمريكية من فرض سياسة الاندفاع إلى الأمام وتفجير النزاعات في أكثر من مكان، وصولا إلى انهيار الكتلة الاشتراكية، وكان ذلك بمثابة انتصار كوني للإدارة الأمريكية التي وظفت في تلك المعركة قوى إقليمية ومحلية عديدة، مستخدمة الأديان والأنظمة المتسلطة ..وبعد سقوط الكتلة الاشتراكية أصبح الوطن العربي بلا غطاء أمني وفقدت الدول العربية المركزية مصر والعراق والجزائر تحالفاتها الضرورية، الأمر الذي كان يعني إتاحة الفرصة للإدارة الأمريكية لإعادة ترتيب الأوضاع في هذه البلدان..فكان أن سحبت مصر خارج السياق العربي وأن أغرقت في داخل المربع الأمني الأمريكي لتقوم بمهمات أمنية وأصبحت دولة كبيرة مثل مصر تدخل تنافسا مع إمارة صغيرة في الخليج لاقوة لها ولاتاريخ ..ودخلوا على العراق فدمروه وفتتوا دولته ومؤسساته، وهكذا فعلوا في أكثر من بلد عربي وإسلامي..ووجدت أمريكا بعد حرب الخليج أن مشروعها الإمبراطوري الذي أطلقت عليه شرق أوسط جديد يصطدم بكره عربي وإسلامي متمكن من قلوب الناس ضد الإدارة الأمريكية، الأمر الذي حاول الدارسون الأمريكان أن يوجدوا مبرراته، واهتدى الامريكان وصناع القرار منهم إلى أن هناك ثلاثة عوامل اساسية لكره العرب وحقدهم على الامريكان تتمثل في انحياز امريكا لاسرائيل وعدوان امريكا على العراق واسناد امريكا للحكام الديكتاتوريين، فكان ذلك مدعاة لتغيير السلوك في ظاهره فاتجهت السياسة الامريكية الى فتح باب التسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين من أجل حل الدولتين، واستمرت الوعود الامريكية بقرب انجاز الحل، وفي عملية تسويفية متتالية انقضت عشرات السنين على أمل قيام دولة فلسطينية..وفي موضوع العراق أعلنت الادارة الامريكية عن جدولة انسحابها منه وأن الأمر تم ارجاعه إلى أهل البلد، وعليهم إدارة شئون بلادهم بأنفسهم..وبقي معالجة موضوع العلاقة بالانظمة المتعفنة فأعلنت امريكا في اكثر من مرة، لاسيما بعد مجيء أوباما أنه على الأنظمة العربية الفاسدة تغيير أوضاعها والقيام باصلاحات ملموسة، كما صرت غير ذات مرة وزيرة الخارجية الامريكية وخصصت الادارة الامريكية أموالا للاعلام والعلاقات العامة، من أجل فضح مفاسد النظام العربي..وهكذا يمكن فهم أن تغيير الانظمة وإجراء إصلاحات تطال قوانين واوضاع انما هو مصل جديد في عملية اكتساب وقت جديد.. وذلك لتنفيذ المخطط الامبراطوري. * * القوى والأحزاب السياسية المصرية المعارضة * أجمعت القوى السياسية المصرية المعارضة منذ اليوم الاول للثورة على سقف مطالب أقصاها تعديل بنود في الدستور وإلغاء حالة الطوارئ والافراج عن المعتقلين وعلى الاكثر إعادة مراجعة الطعون الخاصة بالانتخابات البرلمانية..ولم يستطع قادة الاحزاب ادراك طبيعة الثورة ولا استيعاب الصدمة القوية، فكانت المراهنة في اقصاها ان تستمر الثورة ليومين او ثلاثة فتكون احتجاجات موضعية لاهداف محددة. * ومن هذه الزاوية حاولت الاحزاب مجتمعة او منفردة ان تحظى بلقاء مع اللواء عمر سليمان في حوار قد يفضي الى تحقيق بعض المطالب السياسية والاجتماعية وتساوى في هذا الموقف الاخوان المسلمون واليساريون والليبراليون إلا ان ثورة الشعب المصري والتي لم تعلن مبادئها السياسية في البدايات سريعا ما رفعت سقف المطالب معلنة ان لاحوار مع حسني مبارك وان ليس امامه الا الرحيل، وهكذا الامر مع نائبه ونظامه..رأت القوى السياسية المصرية ان استمرارها في المفاوضات او الحوار مع النظام يعني بوضوح انها تكرس وجودها في النظام القائم وكانت هذه امنية كبيرة لبعض القوى السياسية التي كانت لسنوات طويلة محظورة او مطاردة تلاحقها اجهزة الامن بالاعتقالات والمضايقات الحادة. * كانت جميع الاحزاب ضمن القبول الامريكي لأنها لا تمثل اي تناقض جوهري مع النظام وهي بخطابها وتكوينها وادواتها وشعاراتها عبارة عن جزء من النظام، وهي لايمكن ان تمس السياسات الخارجية للبلد وهذا هو المراد امريكيا. * * الثورة المصرية في مواجهة النظام وأمريكا والأحزاب * تحرك الثوار المصريون بدون ردات فعل ولم يتعجلوا أمرهم في أي خطوة ولم يستفزهم احد..انطلقوا في ثورتهم بعنوان الكرامة والحرية وضد مفاسد النظام وظلمه فالتقط الامريكان هذا الخطاب بانه الفرصة السانحة لتنفيذ مخططهم واظهارهم بانهم مع خيارات الشعوب فأيدوا الهبة الجماهيرية والحركة الاحتجاجية وطالبوا باخراج مبارك من الحكم لانهم قد حضروا مرشحهم من زمن طويل ..وبعد ان انخرطت الاحزاب في الثورة قبل ان تتحدد اهدافها الحقيقية خشيت امريكا من ان يسيطر الاخوان المسلمون وغيرهم من القوى القومية على مقاليد الحكم في مصر، مما يشكل كارثة استراتيجية للسياسة الامريكية في المنطقة فتحوّر الموقف الامريكي بخطابات متناقضة للمسئولين الامريكان..وبعد ان ردت الثورة بموقف واضح حاسم على المتحاورين ان لا حوار الا بعد سقوط النظام تراجعت معظم الاحزاب الى خندق الثورة معلنة ان لا أمل في التسوية مع النظام. * شيئا فشيئا تتضح برامج الثورة وخطتها وهي تعني بوضوح انها مدركة للمكائد وان قادتها الشباب يسيرون حسب برامج محسوبة باتقان، وفي مقابل ذلك ينهار النظام بكل اركانه شيئا فشيئا، وتلتحق صفوف الشرفاء بالثورة، ويتفكك المكوّن السياسي المصري ليرتكب من جديد بمعطيات جديدة.. وهكذا تتضح الصورة امام الامريكان ان الذي يجري انما هو ثورة شعب ومن هنا بدات الافتراقات بين الثورة والخطابات خارج الميدان..وهكذا تصبح الثورة هي الصانع الوحيد للحدث..وهكذا ينهار النظام ومنظومة افكار الاحزاب وتسقط الرغبة الامريكية لتنتصر ارادة الشعب.