الثورات التي تقص اليوم شوارب الرياس وتعفو عن لحى الملوك والأمراء العرب، لن تضع أوزارها في أطراف المشارق والمغارب حتى تنهي آخر مهمة مبرمجة لها، بتعليق الجرس الأخير لثور المغرب الأوسط، الذي لا تستقيم جغرافيته السياسية والبشرية، ومقدراته المادية مع طبيعة الجغرافية التي يريدها الغرب لعالم عربي، تقلب حروفه بالتهجّي المريح إلى غربي وعبري، أو يتقاتل بقاياه على ما يعافه حتى البعير.
* مع انتقال حالة الثوران الشعبي إلى سورية، وبداية تململ في الساحة الجزائرية، بات واضحا أن القوى التي تدير وتؤجّج هذا الحراك الشعبي العربي الفوضوي خلف الستار وفي الوجهة إنما تستهدف جزءاً من العالم العربي دون غيره، بتركيز واضح على النظم الجمهورية، وحماية أوضح للنظم الملكية الأكثر تخلفا في العالم العربي، على الأقل في مجال مشاركة الشعوب في الشأن العام، وبخلفية كيدية بدأت تتضح أكثر، تريد تفكيك أو على الأقل إضعاف كل دولة عربية يحكمها نظام جمهوري بصرف النظر عن طبيعة النظام ومقدار قربه من الغرب، يكفي أن يتوفر على واحد من مصادر القوة: الكتلة البشرية، والمقدرات الاقتصادية أو كلاهما، مما يخشى منه أن يسمح لبعض الدول العربية أن تطمع في لعب أي دور في إدارة الفضاء العربي مستقبلا. * * قص شوارب الرياس والعفو عن لحى الأمراء * وإني أدعو القارئ أن يتابع الأحداث وأمامه خارطة جغرافية سياسية اقتصادية للعالم العربي، ليلاحظ كيف أن هذا الحراك، إذا كتب له أن ينجح، سوف يخلق حالة من الفراغ الآمن لدول الخليج النفطية، المحكومة بأنظمة أكثر من مستبدة، خاضعة بالكامل لإملاءات الغرب، من جهة، ومن جهة أخرى إسقاط المواقع التي قد يأتي منها أيّ تهديد مستقبلي للكيان الصهيوني. وإذا كان الغزو الأمريكي قد حيّد لعقود العراق الغني بثرواته وكثافته البشرية، فإن عهد أوباما نجح حتى الآن في تفكيك كتلة السودان وإخراجها من اللعبة، مع إخضاع ما بقي من السودان لتهديد دائم في دارفور والمناطق الشرقية، ولفرص قيام الحرب مع كيان الجنوب، كما نجح في نقل مصر من كيان جامد عديم الحركة فاقد للتأثير، إلى كيان يوجه ما بقي له من مصادر القوة لإدارة أزمة حكم داخلية مفتوحة على غد مجهول. * وأيّا كانت النتيجة التي سوف يؤول إليها الحراك في اليمن، سقوط النظام بأيدي معارضة تلتقي فقط عند شعار »إسقاط النظام« أو انتهى الأمر إلى تسوية تشتغل عليها دول الخليج المتخوفة من قيام واقع غير مستقر قد ينقل الفوضى إلى دول الجوار الخليجية، فإن الوضع يختلف في سورية وليبيا والجزائر، وهي الدول التي سوف يشتغل عليها الغرب بكل الوسائل المشروعة والمارقة عن الشرعية الدولية وعرف القانون الدولي. * * الأرض المحروقة لحماية جزيرة النفط * سوف ندع الأشقاء في سورية يتدبّرون الأخطار والتهديدات الناشئة عن أيّ حراك يجنح إلى ما جنح إليه الحراك في ليبيا، وما يجري في درعا وبانياس مقدمة مقلقة لما سيحدث في الأسابيع القليلة القادمة، إذا ما أخفقت السلطات السورية في التعاطي مع هذه المقدمات بحزم أمني صارم من جهة، وبسحب البساط من تحت أقدام السحرة، بالإعلان عن مشروع إصلاحي واسع يبدأ من حيث انتهت إليه المطالب الشعبية المعلنة، ولا يرتكب الأخطاء التي ارتكبتها السلطات في تونس ومصر واليمن وليبيا، بالتسويف وتقديم التنازلات بالتقسيط المريح. * ما يعنينا هو الالتفات إلى الأوضاع في بلدنا الجزائر المهدد أكثر من غيره ببرنامج كيدي قادم، ربما يكون العمل قد بدأ في بناء تحالف إقليمي ودولي أوسع وأكثر شراسة من ذلك التحالف الذي يفتك اليوم بليبيا. وعلى الذين يعتقدون أن البحبوحة المالية للجزائر سوف تسمح لها بتفادي ما حدث في تونس ومصر، عليهم أن يعتبروا بالمثال الليبي الذي لم يكن يعاني فيه المجتمع مما يعاني منه المجتمع الجزائري من بطالة وإقصاء لشرائح واسعة من أفراد الشعب. * * عندما يفجر التطرف في الطبقة وسطى * علينا أن نتذكر أن الحراك في تونس ومصر، وحتى في اليمن وسورية لم يأت من الفئات المحرومة، بل من هذه الطبقة الوسطى التي اشتد ّعودها، ومن جزء من المجتمع المستفيد، الذي يعلم أكثر من غيره أن الثورات وانعدام الاستقرار يوفران أفضل الفرص للثراء السريع، وركوب التيار الإسلامي للموجة، وقد أوهمته بعض الإيحاءات الغربية، أن الغرب لم يعد يمانع في التعامل مع حكومات إسلامية أردغانية، تقبل بما رضي به من قبل اليسار الاشتراكي في عموم أوروبا، قبل أن يعمد كأفضل مسير لليبرالية في أسوإ أحوالها الريغينية والتاتشيرية. * الأسباب التي ترشح الجزائر لتكون الهدف القادم كثيرة، أخص بذكر أبرزها في الموقع الجغرافي الاستراتيجي، والكتلة البشرية، والمساحة والثروات، فضلا عن تماسك وثبات موقف ممانع معتدل، غيور على استقلالية القرار الوطني حتى حين كانت الدولة في أضعف أحوالها، واقعة تحت ضغط المديونية، واشتراطات صندوق النقد الدولي. * * تعليق الجرس الأخير لثور المغرب الأوسط * وبالنظر إلى هذا الواقع، فإن أيّ ترتيب جاري لإعادة هيكلة العالم العربي، وتحديدا منه دول شمال إفريقيا، ولاحقا ترتيب الأوضاع بهذا الفضاء الواسع المفتوح للدول المطلة على الصحراء الكبرى يبقى ترتيبا ناقصا، ولن يكتب له النجاح ما لم تعالج الجغرافية السياسية لهذه الكتلة الوازنة التي تفصل جناحي شمال إفريقيا، وقد أظهرت الدولة فيها قدرة على إفشال مشروعين غربيين كبيرين: الإتحاد من أجل المتوسط بقيادة فرنسا، وتوطين قاعدة أفريكوم الأمريكية بالمنطقة وبالقارة. * ليس عندي أدنى شك أن السلطات الجزائرية على دراية بهذه التهديدات التي قد تجد في الحراك الشعبي، والفلتان السياسي والأمني بالمنطقة، فرصة وبوابة لمعالجة الحالة الجزائرية، بعد أن تنتهي من تنفيذ الترتيبات الجارية في ليبيا، وتثبيت الأوضاع في تونس ومصر، وربما تكون السلطات الجزائرية قد التفتت إلى ذلك التصريح الخطير لوزيرة الخارجية الأمريكية منذ أقل من أسبوعين، خارج أي سياق طبيعي، أوحت فيه بتأييد الولاياتالمتحدةالأمريكية للمقاربة المغربية لملف تسوية النزاع في الصحراء الغربية، في تحوّل مفاجئ وغير مبرر للموقف الرسمي الأمريكي، ولا يمكن من جهة أخرى أن نتجاهل النشاط المكثف للمؤسسة الاستخباراتية والإعلامية المغربية، في اتجاه إقناع المتمرّدين في بنغازي، والقوى الدولية المساندة لهم، بتورّط الدولة الجزائرية في عمليات مزعومة لنقل »المرتزقة« الأفارقة، وتزويد النظام الليبي بالإمدادات من المحروقات والذخيرة، بل روّجت لمشاركة مقاتلين من جبهة البوليساريو مع القوات الليبية. وليس صدفة أن يتحرك جناح من الإخوان المنشق عن حمس ليعبر باسم الجزائريين عن دعم التمرد والعدوان الغربي ضد الشقيقة ليبيا، وتتفرد قناة الجزيرة القطرية بإذاعة بيان نسبته إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة يدين موقف السلطات الجزائرية من الأحداث في ليبيا، ويتهمها بالخيانة، وكأن معارضة السلطات الجزائرية للعدوان الغربي الصليبي صار في قاموس الإسلاميين جريمة تستحق لأجلها الأنظمة تهمة الخيانة العظمى. * * التعجيل بالتغيير لتأمين الجبهة الداخلية * لست قلقا من أيّ حراك شعبي، ليس لأن الشعب الجزائري لا يشارك بقية الشعوب العربية في ذلك الطموح المشروع لمزيد من الحرية والمشاركة، وهو الذي دفع ضريبة دم ثقيلة من أجل الاستقلال أولا، ثم من أجل الاعتراف له بحق المشاركة في إدارة الشأن العام منذ عشرين سنة خلت، قبل أن يعبث العابثون بخياراته، ويساق إلى حرب أهلية مدمرة، فقد معها الأمن والاستقرار والكثير من مقدراته، لكن مصادر القلق كثيرة من جهة التسويف الذي يطبع تحرك السلطة على أعلى مستوى في اتجاه استباق الأحداث وما يدبر في الخفاء، بتحصين الجبهة الداخلية من أي اختراق، والاستجابة الطوعية لمطالب التغيير والإصلاح التي يفترض أن تنظر إليها السلطة كحاجة وضرورة لتأمين أمننا القومي المهدد بهذا العبث الغربي. * قبل اندلاع الأحداث التي هزّت العالم العربي، كان الطموح لإحداث التغيير والإصلاح مطلبا تقتضيه الحاجة إلى تطوير الدولة والحكم، فضلا عن كونه حقا ثابتا للشعب الجزائري الذي تحمّل الجزء الأكبر من أعباء وتبعات العشرية الحمراء، وأجل الكثير من مطالبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية حين كانت الدولة تعيش ضائقة مالية وتعيد بناء ما هدمته الفتنة، لكن الإسراع بتبني إصلاحات سياسية عميقة هو اليوم جزء، بل هو الجزء الأهم من سياسة تعبئة الجبهة الداخلية وتأمينها استعدادا لمواجهة التهديدات الخطيرة التي تحيط بنا، وأود أن يدرك صانع القرار أن الحروب الاستعمارية الجديدة لا تواجه بأرتال المدرعات وأسراب الطائرات، مهما كانت كفاءة القوات المسلحة، بل تحتاج إلى تأمين الجبهة الداخلية بتحقيق التوافق وتوثيق العقد الاجتماعي، ومنع وحرمان المتربص من فرص الاختراق، والعبث بالشعب. * * البحث مع الجماعة عن العقد الفريد * للأمانة يجب عليّ وعلى كل منصف أن يعترف للرئيس بوتفليقة حرصه منذ العهدة الأولى على الذهاب سريعا إلى تغيير جذري للنظام عبر تعديل واسع للدستور، والخروج من النظام شبه الرئاسي الذي استنسخناه من الفرنسيين إلى نظام رئاسي صرف، وحدد رغبته خلال العهدة الثانية وقبل العهدة الثالثة، لكنه واجه في كل مرة معارضة شديدة من داخل مؤسسات النظام، ومن القوى السياسية المشاركة في الحكم كما في المعارضة. وقد فوّتت علينا هذه القوى فرصة إصلاح الكثير من العيوب التي ارتكبها محرر دستور 1989، وربما الخروج بالبلاد من ذلك الجمود والانسداد الذي ميّز الحياة السياسية منذ توقيف المسار الانتخابي قبل عشرين سنة خلت. * وفي كل الأحوال لم يعد بوسع الرئيس، ولا بوسع القوى التي عارضت التغيير عبر إصلاح الدستور، مواصلة إدارة البلد بمؤسسات مترهّلة، ودستور لا يحترمه أحد. كما أن المشهد السياسي الموروث عن حقبة التسعينيات بهذه التعددية الخرقاء، والأحزاب الفاقدة للتمثيل وللتواصل، خاصة مع هذا الجيل الشاب، قد أصبح اليوم جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل، وقبل أن ترتفع أصوات تردد ذلك الشعار الأخرق: »الشعب يريد إسقاط النظام«، ينبغي على الماسك بالقرار أن يبادر إلى التغيير بالإصلاح العاجل لمؤسسات الدولة عبر تعديل دستوري، أو يكون من الأفضل إشراك المواطنين في صياغة دستور جديد للبلاد، يمنحنا خارطة طريق لبناء دولة مدنية حديثة قادرة على حماية البلد وتعبئة طاقاته ومقدراته لمواجهة التهديدات الخطيرة المحيطة بنا، حتى لا نؤخذ على حين غرة، كما أُخذ غيرنا من الأشقاء العرب في المشرق والمغرب. * * لست خبّا ولا الخبُّ يخدعني * حين يداعب السفير الأمريكي إحدى الصحف الوطنية منذ أيام بالقول: ها قد صارت الجزائر أكبر دولة إفريقية بعد تقسيم السودان، ينبغي أن أجلس إن كنت متكئا، وحين تصرح كلينتون خارج السياق والمعلوم من الموقف الأمريكي تجاه ملف الصحراء الغربية، ينبغي أن أفرّك عيناي، وأقف عندما أرى حلف النيتو يخرب أمن إقليمنا ويقتل جيراننا، وحتى لو لم أكن خبا فلا ينبغي للخب أن يخدعني حتى أستفيق غدا على صوت العبد الذليل أمير عقلة الأصبع وهو يهجي برطانة المستغورين الجدد ينبغي لعبد العزيز أن يرحل. *