من يصدق أن سلاح البحرية الجزائرية بات يشكل تهديدا للكيان الصهيوني يحتاج معه إلى وساطة حلفائه الغربيين لإيصال رسالة للسلطات الجزائرية، ظاهرها التعبير عن قلق من تنامي قوة سلاح البحرية على حركة الأسطول التجاري للكيان الصهيوني، وباطنه من قبله تهديدا صهيونيا مبطنا لآخر بلد عربي كبير لم ينخرط في محور الاعتدال والتطبيع، ويخشى من ماضيه النضالي ومقدراته المادية والبشرية أن تجعل منه في الحد الأدنى قوة ممانعة قادرة على تعويق مخططات التطويع والتطبيع. * * كان ينبغي لنا جميعا، أن يستوقفنا ذلك الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية عن أوساط أوروبية، تكون قد نقلت للسلطات الجزائرية قلق الكيان الصهيوني من تنامي قوة سلاح البحرية الجزائرية, وذكرت مصادر دبلوماسية غربية أن وزير الدفاع الأمريكي السابق رونالد رامسفيلد كان قد نقل من قبل هذا الانشغال للسلطات الجزائرية، كجزء من مخاوف الكيان الصهيوني، من أن يتعرض أسطوله التجاري في الحوض الغربي من الأبيض المتوسط إلى هجمات تشنها البحرية الجزائرية عليه، في حال نشوب حرب جديدة بين العرب والكيان الصهيوني، مع الأخذ بعين الاعتبار المواقف العدائية للجزائر من الكيان الصهيوني، كما زعمت المصادر الأوروبية. * * قلق دولة القراصنة من عودة رياس الأيالة * * تجديد انشغال الصهاينة بتنامي قوة سلاح البحرية الجزائرية في هذا الوقت بالذات، لم يأت بعد حادث أو تهديد تكون قد تعرضت له بواخر إسرائيلية، ولا بعد إطلاع الصهاينة على صفقة تسلح جديدة، تكون قد استفادت منها البحرية الجزائرية، وليس في الأفق أية بوادر لحرب بين العرب وإسرائيل، فما الذي دعا الكيان الصهيوني إلى التخوف من البحرية الجزائرية؟ إلا إذا كان الكيان الصهيوني يريد أن ينقل للسلطات الجزائرية، ومعها لعموم قادة دول شمال إفريقيا، أن مجموع دول المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر، هي جزء من فضاء الأمن القومي لإسرائيل، وأنها تمتلك حق النظر في منظوماتنا الأمنية والعسكرية. * حتى الساعة لم نسجل أية ردة فعل رسمية، وقد لا نتوقع من السلطات العسكرية الجزائرية أي تعليق، بالنظر إلى ما سلف من التحرشات الإسرائيلية من حين لآخر بالملف النووي الجزائري، ومحاولة توجيه الأنظار لمفاعل عين وسارة العلمي التجريبي. غير أنه من حقنا على فادتنا أن نستمع منهم على الأقل إلى تقييم مبدئي لهذا الاهتمام الصهيوني بواحد من أسلحة الجيش الوطني الشعبي، وأكثر من ذلك تقييم هذه المقاربة الصهيونية لأمن إسرائيل، التي جعلت الحوض الغربي من المتوسط جزءا من أمنها القومي، بكل ما تعني هذه المقاربة من تهديدات على أمننا، والتفكير في العودة إلى السياسة التي كانت سائدة في عهد المرحوم هواري بومدين، وكانت تضع إسرائيل على رأس قائمة الكيانات التي تهدد أمننا، مثلنا مثل بقية الدول العربية، ثم البناء على المستجدات التي طرأت على سياسات الكيان الصهيوني بعد اتفاقية كامب دافيد، ومنها هذا التحرش الإسرائيلي المتواصل بالمقدرات العسكرية أو التكنولوجية لدول عربية وإسلامية، ليست من دول الطوق، كما فعلت مع العراق، وكما تتصرف اليوم مع إيران في الملف النووي. * * الانشغال الوهمي الذي يسبق الاشتغال الفعلي * * دعونا نعري هذا الانشغال الصهيوني بتنامي قوة سلاح البحرية الجزائرية من دوافعه المعلنة، التي لا تصمد لحظة أمام الحقائق في الميدان. فعلى حد علمنا، لم نسمع أن سلاح البحرية الجزائرية قد تزود بحاملة للطائرات تستطيع أن تنقل التهديد إلى حدود فلسطينالمحتلة، أو بوارج حربية قادرة على فرض حصار على الكيان، أو مجموعة متطورة من الغواصات قد تعيق حرية الحركة للأسطول الصهيوني. ثم على افتراض أن البحرية الجزائرية قد نمت قدراتها للحركة في عرض الحوض الغربي من الأبيض المتوسط، فإنها لا تستطيع أن تشكل أي تهديد على الملاحة التجارية في أعالي البحار المحكومة بقوانين دولية، ومع وجود عدد كبير من الأساطيل الأمريكية والأوروبية التي تهدد سلامة دول الساحل الجنوبي على الدوام. * إلى ذلك فإن الملاحة التجارية الدولية ليست مهددة بأساطيل الدول، بقدر ما هي مهددة بتنامي ظاهرة القرصنة، التي لا تحتاج، لا إلى دول وجيوش نظامية، ولا إلى قطع بحرية متطورة. كما أن عدوان إسرائيل على لبنان سنة 2006 قد كشف لإسرائيل وجود تهديد آخر لسلاح بحريتها عبر منظومات صاروخية تطلق من البر، استطاعت أن تدمر إحدى أحدث بوارج الكيان الصهيوني, وبذلك فإن الانشغال الصهيوني من تنامي سلاح البحرية الجزائرية، لا يضمر تخوفا حقيقيا على حرية تحرك الأسطول التجاري الصهيوني بعرض الحوض الغربي للمتوسط، وينبغي لنا أن نقرأ ما يتضمنه من رسائل وتهديدات، وما يخفيه من ضغوط قد تحرك لها الدول الغربية للتدخل في شأن داخلي صرف لدولة ذات سيادة. * * حراسة على حراس بوابة غرب المتوسط * * مبدئيا كان يفترض من الدول الغربية التي نقلت الرسالة الإسرائيلية، أن تبلغ هذا الكيان المدلل، أن الإتحاد الأوروبي هو الذي بادر إلى تحفيز دول المغرب العربي على تنمية وسائل تطويق موجة الهجرة السرية التي تؤرق اليوم معظم دول الإتحاد، وكان عليها أن تذكر قادة الكيان، أن البحرية الجزائرية، ومعها سلاح البحرية في المغرب وليبيا، تقوم اليوم بوظيفة حارس البوابة، والقيم على خفارة الجبهة الأمامية في الحرب على الهجرة السرية المتنامية، حتى أن بلدا مثل إيطاليا، مهددا بالهجرة السرية، قد دخل في شراكة إستراتجية مع ليبيا بدأت تؤتي أكلها. وقبل أن تستفحل ظاهرة الهجرة كانت الدول الغربية ومنظمة حلف الناتو قد انفتحت على دول المغرب العربي وعلى بحريتها، بعقد عدة اتفاقيات أمنية، وتنظيم مناورات مشتركة في سياق التصدي لما يسمى بالحرب على الإرهاب. وسواء تعلق الأمر بهذا الملف، أو بملف الهجرة، فإن الخدمات التي قدمتها الدول العربية في الساحل الجنوبي تفوق بكثير ما كان بوسع الكيان الصهيوني أن يقدمه لحلفائه الغربيين، وهو الذي إنما أنشئ ودعم للقيام بوظيفة أمنية غربية صرفة في هذه المنطقة المضطربة من العالم. * وإذا كان تنامي سلاح البحرية الجزائرية لا يشكل أي تهديد، الآن أو في مستقبل منظور، للملاحة التجارية الدولية ومنها بواخر الكيان الصهيوني، وأنه لا يتعارض مع مصالح الدول الغربية، بل أصبح شريكا يعول عليه في تحقيق الأمن في هذه المنطقة، وتأمين حدود الإتحاد الأوروبي، فإنه ينبغي أن نبحث عن الدوافع الحقيقية للانشغال الصهيوني في مكان آخر. * * صناعة الخوف عند كيان يعيش على الترهيب * * الخبراء الإستراتيجيون المتابعون للسياسة الأمنية للكيان الصهيوني يعلمون علم اليقين، أن القاعدة التي تحكم أمن الكيان الصهيوني، تحرم السماح بقيام أية قوة سياسية اقتصادية أو عسكرية منافسة لإسرائيل في دوائرها الأمنية الثلاث، والجزائر كانت ولا تزال مصنفة في الدائرة الثانية التي كانت تشمل العراق قبل الغزو، والسودان قبل فتنة الجنوب ودارفور، وإيران بعد قيام الثورة الإسلامية. فقد كانت إسرائيل تنظر إلى محيطها العربي عبر ما يجري في الدول ذات الكتل السكانية الكبيرة، مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان والمغرب. وقد تم تحييد معظم هذه الدول إما باتفاقيات سلام، كما حصل مع مصر، أو بحروب وفتن داخلية، كما حدث في السودان، ويحدث اليوم في اليمن، أو عبر الغزو المباشر، كما حدث في العراق. وكادت الجزائر تخرج من الحساب طوال عقد من الزمن، بعد أن أشغلت في فتنة داخلية، غير أن استعادة الأمن والاستقرار، وتزامن ذلك مع الطفرة النفطية الثالثة، قد أعاد الجزائر إلى الواجهة، وظهرت محاولات أمريكية وأوروبية، لم تكن إسرائيل بعيدة عنها، لاستدراج الجزائر إلى "شراكة" أمنية وعسكرية، إما مع حلف الناتو، أو مع الولاياتالمتحدة التي ضغطت من أجل توطين مقر "الأفريكوم" في الجزائر، وما زالت تضغط في اتجاه انخراط الجيش الوطني الشعبي في تنسيق عسكري وأمني على تخوم الصحراء الكبرى، ودول الساحل في سياق محاربة القاعدة. * وفي هذا السياق، لا نستبعد أن يكون التحرك الصهيوني جزءا من الضغوط التي تمارس على الجزائر نحو مزيد من التعاون والتنسيق مع حلف الناتو، والحراك العسكري الأمريكي في المنطقة. كما لا نستبعد أن يكون لفرنسا ساركوزي أكثر من دور فيه، بالنظر إلى ما تشهده العلاقات الجزائرية الفرنسية من تتدهور، كان آخره استهداف مؤسسة الجيش الوطني الشعبي في ملف الرهبان السبع، وتحميل الجزائر مسؤولية فشل مشروع الإتحاد المتوسطي الذي كان يهدف إلى جر دول المغرب العربي إلى تطبيع كامل مع الكيان الصهيوني. * * البحث عن دور للصهاينة في إدارة المغرب العربي * * غير أنه، ومع استبطان دور ما للدول الغربية لهذا السبب أو ذاك، فإن هذا الانشغال الصهيوني بما تقول أنه تنامي لقوة سلاح البحرية الجزائرية، يملي علينا قراءة ما يضمره من تهديد حقيقي على أمننا القومي، من كيان كان وما زال يصنفنا كعدو، ولا يتردد في القول أن دول المغرب العربي هي جزء من دائرة أمنه القومي، تسمح له في الحد الأدنى ممارسة حق النظر في أي مستجد يطرأ على موازين القوة، بمعنى أن إسرائيل ترى في نفسها قوة إقليمية، يمتد نفوذه إلى شواطئ الأطلسي، وهي معنية مثل جيران المغرب العربي مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا بتطور موازين القوة في الحوض الغربي للمتوسط. * السكوت على مثل هذه التطلعات الصهيونية أو تجاهلها، قد يكلفنا الكثير، وقد يشجع الكيان الصهيوني في الحد الأدنى على صياغة مطالب أخرى، تتوسط له فيها دول غربية، لا ترفض له في الغالب أي طلب، وقد نشهد في وقت لاحق تدخلا صهيونيا سافرا في بؤر التوتر التي تشهدها المنطقة، ومحاولة البحث عن دور له في المنطقة، يسمح له بتحقيق واحد من أهدافه الإستراتيجية الدائمة، وهي تطويق الدول العربية ذات الكثافة السكانية والمقدرات المادية والبشرية، ومنها الجزائر التي، وإن لم تصنف بعد في محور دول الممانعة، فإنها لم تنخرط أبدا في دول محور الاعتدال، وينظر إليها على الدوام كدولة مستعصية على التطبيع على المستوى الرسمي كما على المستوى الشعبي. * * عين على ساحة إيران وأخرى على حارة المغاربة * * على هذا المستوى، تتقاطع المصالح الإسرائيلية مع المصالح الأمريكية والأوروبية في النظر إلى الجزائر، بحكم تاريخها النضالي، ودورها الإفريقي المميز، وحسن إدارتها لسياسات متوازنة في المحافل الدولية، وصداقاتها الواسعة في القارات الخمس، ينظر إليها كقوة إقليمية قادرة في الحد الأدنى على تعطيل الكثير من السياسات الغربية في المنطقة، ومنها تعويق مشروع الإتحاد المتوسطي، ومنع دول المغرب العربي، والدول المطلة على الصحراء الكبرى من الانسياق نحو فتح المنطقة للتدخل العسكري الغربي تحت مسميات كثيرة. * فانشغال إسرائيل والغرب بالملف النووي الإيراني، وتنامي القوة العسكرية الإيرانية ودورها الإقليمي في العراق ولبنان وفلسطين، لن يصرف أنظار الصهاينة وحلفائهم الغربيين من رصد ما يجري في المغرب العربي، وتحديدا ما يجري في الجزائر، خاصة وأن الجزائر استطاعت في ظروف صعبة للغاية أن تتجاوز الفتنة الكبرى، وتعيد ترميم مؤسسات الدولة، وما زالت تدير بقدر من الكفاءة والرصانة الملف الصحراوي المعقد والمفخخ. وليس في الأفق ما يمكن أن تعول عليه لا إسرائيل، ولا حلفاؤها الغربيون لترتيب مسار يشبه ما أنجز في العراق أو السودان، ولا يبدو أنهم يعولون كثيرا على دورة العنف الجديدة المبتدعة مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والتي تفتقر إلى السند الشعبي، فضلا عن افتقارها للمشروعية السياسية أو الدينية، في بلد لم يعد من الممكن فيه تجربة المجرب، أو الانسياق الأعمى خلف المغامرين. * استرجاع الجزائر لقدر من الاستقرار والأمن، وعودة الدولة لوظائفها الرئيسة، مع توفر مقدرات مالية قد يخشى أن يذهب جانب منها لتعضيد القوة الصلبة للبلد ومنها قواتها المسلحة، أو تستثمر في توطين بعض التكنولوجيات المحرمة على الدول النامية مثل الطاقة النووية، كل ذلك يعيد الجزائر إلى دائرة الضوء، ويخضعها لرقابة لصيقة، ومساومات كتلك التي تمارس اليوم على إيران. وفي كل الأحوال، لا ينبغي لنا أن ننسى أن إسرائيل، ككيان مغروس في جسم الأمة العربية والإسلامي، بلا حدود معلومة، ولا أفق حقيقي لقيام تسوية مع دول الطوق كما مع الفلسطينيين مازال ينظر إلى جغرافية العالم العربي كجغرافية عدائية تهدد على الدوام هذا الكيان الاصطناعي إلى أن يوفر له حلفاؤه الغربيون شرط الاستسلام الكامل للدول والشعوب العربية مشفوعا بتطبيع شامل وكامل، وتجريد محيطه العربي من مصادر القوة.