الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد، فيقول العبد الفقير إلى رحمة الله الخالق القدير، عبد اللطيف بن علي بن أحمد بن محمد السلطاني، والقنطري ولادة ونشأة وأصلا: هذه نبذة أذكر فيها حياتي وما مر منها وما بقي منها يعلمه الله وحده سواء في أيام صباي وطفولتي، أو في أيام شبابي أو كهولتي أو شيخوختي، لتبقى بعدي عبرة وذكرى للمعتبرين والذكرى تنفع المؤمنين ومن الله أطلب التوفيق في القول والعمل، وأسأله أن يحفظني من الخطأ والزلل. آمين. * ولادتي: * فأقول وعلى الله أعتمد وأجول: كانت ولادتي وخروجي إلى هذا العالم الفاني ببلدة القنطرة الواقعة في ولاية »باتنة« حسب التقسيم الإداري الجديد، في يوم الأحد فاتح ربيع الأول سنة 1320ه، حسبما وجدت هذا مكتوبا بخط والدي رحمه الله وكان هذا بالتاريخ الهجري فقط، ولما قابلت ما بين التاريخين الهجري القمري، والشمسي الميلادي، وجدت أن ربيع الأول المذكور قد استهل هلاله بيوم الأحد، كما ذكر والدي، وبعد المقابلة بين التارخين، تبين أن ولادتي كانت يوم الأحد كما ذكر الوالد، يوافقه 8 جوان 1902م، أما الساعة بالتحديد فلم يذكرها على عادة الأقدمين في قلة عنايتهم بالضبط والتدقيق. * وهذه كلمة والدي التي وجدتها مكتوبة بيده، قال: (وولد ولدنا عبد اللطيف بعده يعني بعد أخي أحمد يوم الأحد على رأس ربيع الأول عام 1320 في القرن الرابع عشر، أصلح الله أحوالهما وأطال عمرهما). * * تربيتي: * كانت تربيتي في صغري في بيت والدي مع إخوتي وأخواتي فقد مات الوالد وبقينا يتامى عليه الرحمة والرضوان ( يوم الثلاثاء 2 من ذي الحجة سنة 1322ه الموافق ل 7 فيفري سنة 1905م ببلدتنا القطنرة، بعد صلاة العصر، مات قتيلا، قتله رجل مختل العقل يسمى »عمر بن بوصلاح« وهو قنطري الأصل والدار، ومسكنه قريب من مسكننا، قتله بعد الانتهاء من إلقاء درسه بعد صلاة العصر في جامع »المصادقة« القريب من دارنا بمديةٍ، وهو متكئ إلى جانب باب داره على الطريق العام، كان جالسا مع الطلبة والعامة للتذاكر في أمورهم، حسب ما جرت به العادة من جلوسه بعد الانتهاء من الدروس للمذاكرة واستعراض الأخبار، وكان القاتل من معلمي القرآن في القنطرة، وكان يعلّم في جامع »المصادقة« المذكور، وهو في الوقت نفسه معلم إخوتي الكبار، ولما انتشر خبر موته وقتله، فزعت البلاد فزعا عظيما برجالها ونسائها، كبارها وصغارها، نظرا لما كان يتمتع به من حب واحترام من لدن الجميع، في داخل القنطرة وفي خارجها. * وصورة الحادثة كلها قصها علي أحد الكبار المتقدمين في السن قال: إن الوالد بينما كان متكئا على زربية إلى جنب باب داره، قبالة الطريق العام، إذ فاجأه القاتل وجلس على صدره، وبسرعة أخرج المديةَ وذبحه، كما تذبح الشاة، ولم يتحرك واحد من الحاضرين، وبعد هذه العملية، انتبه القاتل وأفاق من جنونه، وأعطى المدية لأخي الأكبر "عمر"، وقال له: خذ المدية واذبحني كما ذبحت "سيدي" أباك، فلك الحق في القصاص، غير أن أخي "عمر" لم يطاوعه، وكان الوالد في تلك الليلة قد أعد مأدبة عشاء، دعا إليها الطلبة وغيرهم من أهل البلد، من أهل الفضل والدين، وعلى رأسهم القاتل المذكور، وذلك بمناسبة قدوم أخي "عمر" المذكور من بلدة "سيدي عقبة" وحفظه القرآن العظيم، جريا على العادة الحسنة المتبعة في ذلك الزمان، من الفرح بحفظ القرآن وتكريم حافظيه، فانقلب الفرح إلى مأتم وترح، ولكن هذا ما أراده الله وقدره، وقضى به في أزله، فلا رادّ لقضاء الله وقدره وإرادته، وكان لموته وانتشار خبره صدى كبير كما مر في داخل البلدة وخارجها، نظرا لما كان يتمتع به من سمعة واسعة لمركزه العلمي في تلك الناحية، بقد انتشار تلامذته في تلك النواحي، إذ قضى نحو الأربعين سنة في التدريس بالقنطرة وخارجها، وتخرج عليه مشايخ عديدون، وانتشروا في عدة جهات من الوطن، وانتفع بهم خلق كثيرون، رحم الله جميعهم رحمة واسعة، ورحم الله كل عامل للخير أو داع إليه، آمين. * ولما مات والدي على الصفة التي ذكرت، تركني طفلا صغيرا لا أعقل (32 شهرا) إذ كان لي من العمر سنتان وثمانية شهور، فقامت والدتي (عيشوش بنت أحمد ابن الصغير الملقبة بعبد العزيز، رحمها الله وغفر لها)، فقامت بتربيتي حق القيام، تساعدها امرأة عدوية من أولاد عدى بباتنة، تسمى "مسعودة بنت مامي" رحمها الله رحمة واسعة، فأقمت في منزلنا مع إخوتي الأشقاء أولاد أبي، لأن والدي مات عن زوجتين، هما أمي المذكورة سابقا، وامرأة أبي المسماة "مريم حمدان" رحمها الله، هكذا كانت تربيتي في صغري. * * ابتدائي القراءة: * لما حان وقت الشروع في القراءة والتعلم، أرسلتني والدتي إلى الكتاب القريب من منزلنا، والمعروف بجامع "المصادقة" لتعلم الكتابة والقراءة على ما هو معروف في ذلك الزمان، وهي مقصورة على تعلم الكتابة والقراءة والقرآن فقط، على النمط القديم الجاري عليه العمل في ذلك الوقت، فشرعت في التعلم على المعلم الأول السيد "صالح ابن شبانة" رحمه الله، غير أن قراءتي لم تدم عليه ولم تطل، فانقطع عن التعليم، نظرا لكبر سنه وعجزه، فخلفه في الكتاب حافظ القرآن المجيد، الشيخ آمد ابن العبداوي الملقب ب"الطير" رحمه الله، فكانت جل قراءتي عليه، ثم ترك الكتاب فخلفه فيه السيد المبروك بن سي المسعود الملقب ب"مقداد"، فقرأت عليه قليلا من القرآن، لأنه كان غير حافظ له، كما قرأت نصيبا على حافظ القنطرة الممتاز، الشيخ "يحيى بن محمد بن المسعود" الملقب ب "حشايشي"، وتقدمت بي السن بعد أن صرت أعيد وأكرر القرآن وحدي، فصرت أقرأ القرآن وحدي، وأستعين بالمعلم في التصحيح لا غير، (ولعل بدء قراءتي كان في حدود سنة 1326ه 1908م) ثم أرسلتني والدتي إلى خارج القنطرة لأواصل القراءة، لأن في البلدة كثيرا ما صدني عن متابعة القراءة الشغلُ، ولا يعدو جلبَ الماء على الحمار أنا وأخي أحمد رحمه الله، وكذلك شغل البستان من جلب التمر وغيره. * وألاحظ هنا أنني لم أتعلم اللغة الفرنسية، لا أنا ولا واحد من إخوتي الأربعة عمر الشيخ الأمين، أحمد العرافي، أحمد المدني، والمكتب الفرنسي موجود في القنطرة من سنة 1890، ذلك أن والدي لم يسجل أي واحد من أولاده لدى قايد البلدة، كما هو واجب على كل من ولد له مولود، خوفا من إرغام الحاكم الفرنسي والدي على إدخالنا إلى المدرسة الفرنسية، وكان والدي يكره تعلم الفرنسية، لأنها تعطل الولد على مواصلة قراءة القرآن، وكان يقول لوالدتي: لا يقرأ أولادي الفرنسية حتى لا يخرجوا كفارا، هذا هو السبب في عدم معرفتي للغة الفرنسية، ونتج عن عدم تسجيلنا لدى مكتب قايد القنطرة اضطراب معرفتي لتاريخ ولادتي، حتى عثرت على ماكتبه والدي بيده، ومنه أخذت تاريخ ولادتي، ولم أجد هذا الخط إلا بعد أن تقدمت إلى إدارة القايد، طلبا لتسجيل اسمي عنده، ومررت أمام لجنة اختيار الجنود سنة 1932، لأن هذا لازم لمن كان مسجلا لدى قايد البلدة، فقيدت تاريخ ولادتي ب1904، والواقع أن ولادتي كانت سنة 1902، فعمري ناقص بسنتين اثنتين على الأصل، وهذا كله من إهمال الوالد رحمه الله ولعل في ذلك خيرا، رحمهم الله وعفا عنهم أجمعين.