نشر الأستاذ رشيد سحنوني منذ أشهر قليلة، أعمال والده مُحَندْ اُولحُسِينْ (1897 - 1979م) على حسابه الخاص، في مطبعة دار هومة بالجزائر العاصمة، في خمسة أجزاء، أكبرها الجزء الثاني (336 صفحة)، وأصغرها الجزء الخامس (170صفحة)، بعنوان »أمَسْلايْ يَنَّ بَابَا/ ما قاله والدي« جمع فيه إبداعات والده في مجال الأدب (الشعر، والحكمة، والحكاية الهادفة( باللسان الأمازيغي. إن ما ميّز هذا المثقف أنه دخل إلى عالم الإبداع، وفجّر موهبته الأدبية، بعد أن بلغ من السن عتيا، في العقد السابع (67 سنة) أي في مرحلة التقاعد، ليس من أجل النشر والشهرة، بل من أجل تلبية رغبة داخلية جامحة وليس إلا. ولعل هذا المعطى هو الذي أرجأ نشر أعماله إلى سنة 2011م. والجدير بالذكر أن هذه الطبعة الأولى توزع مجانا على المثقفين والمتعلمين. * نبذة عن حياته ينتمي سحنوني مُحندْ اُولحُسين إلى أسرة شريفة عريقة، اشتهر أفرادها بتدريس القرآن، ونشر الثقافة الصوفية. وسُمي باسم أحد أقاربه المدعو الشيخ مُحند اُولحسين الذي كان مقدما للطريقة الرحمانية في عرش آث واسيف، وشارك بهذه الصفة في ثورة 1871م. وبعد فشل الثورة ألقي عليه القبض وسيق إلى كاليدونيا الجديدة، في خريف 1874م، تحت رقم 2940، في نفس السفينة (كالفادوس) التي نقلت الشيخ مُحند وَعْلي اُوسَحنون الإيراثني(1). لكنه استطاع أن يفرّ إلى الحجاز سنة 1887م، وقضى بقية أيامه بمكة المكرمة. ولد مُحَندْ اُولْحُسِين سَحنوني سنة 1897م، بقرية بوعبد الرحمن، بعرش آث واسيف (ولاية تيزي وزو)، حفظ القرآن الكريم في سن الطفولة. وبموازاة ذلك تعلم في المدرسة الفرنسية (1902 - 1909م)، وتحصل على الشهادة الابتدائية سنة 1909م، ثم انتقل الى إكمالية تيزي وزو. ونجح سنة 1914م - في المحاولة الثانية - في مسابقة الدخول الى دار المعلمين ببوزريعة (الجزائر العاصمة)، وكان التكوين التربوي بها يقدر بسنتين ، تضاف إليهما سنة للتربص والتدريب في مدرسة نموذجية. تخرج سنة 1916م، في زمن الحرب العالمية الأولى، وجُند ضمن القوات الفرنسية قبل أن يكمل السنة التكوينية المخصصة للتربص(2).
طرده من دار المعلمين لم يتمكن مُحَندْ اُولحُسين سحنوني من إنهاء تربصه التربوي بدار المعلمين، وهذا بسبب مواقفه الوطنية والتصريح بعدائه للاستعمار الفرنسي. حدث ذلك في غضون سنة 1917م، أثناء تجنيده الإجباري ونقله إلى مدينة مرسيليا، وكان من المفروض أن يعود إلى دار المعلمين بعد تسريحه لإكمال تربصه. لكن حدث أن توفي والده خلال هذه السنة، ولم يسمح له بحضور الجنازة، وترك ذلك جرحا غائرا في نفسه. وفي تلك الأثناء أرسل مُحندْ اُولحُسين سحنوني رسالة بتاريخ 11 سبتمبر 1917م إلى صديقه محمد أبشيش الذي كان يقضي عطلته بقرية عدني (لربعا ناث يراثن)، أبدى فيها انحيازه إلى الألمان - أعداء فرنسا - وتمنّى انتصارهم، وذكر له أنه لا يتمنى أن يموت من أجل فرنسا(3). لكن هذه الرسالة وقعت في قبضة المصلحة الاستعمارية الخاصة بمراقبة بريد الجزائريين، وعلى إثر ذلك تم الاتصال بإدارة دار المعلمين قصد اتخاذ إجراءات فصل الطالب سحنوني مُحند اُولحسين، عند عودته لاستكمال سنة التربص المتبقية. وبالفعل انعقد مجلس التأديب يوم 23 أكتوبر 1917م، وقرر طرده بتهمة معاداة فرنسا (وهو في السن العشرين)، مع إجباره على دفع تكاليف التكوين(4). واحتفظ مدير دار المعلمين بهذا القرار في سرية تامة إلى حين عودته.
مساره المهني تم تسريح سحنوني مُحندْ اُولحُسين من الجيش سنة 1920م، وعلى إثر ذلك عُيّن معلما مساعدا لأطفال الأهالي في شهر مارس 1920م، لكنه لم يلبث أن تلقى قرار الفصل النهائي في شهر أكتوبر. فاضطر إلى الهجرة نحو فرنسا سنة 1922، حيث اشتغل في شركة »رونو« للسيارات مدة عامين، ثم انتقل إلى عالم التجارة، فاشترى محل مقهى - مطعم، سنة 1924م، وفّر له حياة كريمة، ومكث بفرنسا إلى غاية سنة 1942م، ليعود إلى الجزائر بصفة نهائية، ليشتغل بمعية أخيه في المجال التجاري. هذا وبالنظر إلى تكوينه الرصين، وثقافته الواسعة، وتجربته في الحياة، فقد اختاره أهل قريته لإدارة شؤونها. وقد أبدى السيد حسين آيت في مذكراته، إعجابه بالسيد سحنوني مُحند اُولحسين، الذي أبدى استعداده بصفته مسؤولا عن القرية، لتقديم الدعم للحركة الوطنية، في غضون أحداث ماي 1945م. وأبدى انبهاره بثقافته المذهلة، وبتجربته النضالية الطويلة في صفوف اليسار الفرنسي خلال تواجده بفرنسا(5). هذا وعندما اندلعت ثورة أول نوفمبر كان السيد مُحند اُولحسين سحنوني في عقده السادس، واقترحت عليه قيادة الثورة تغيير مقر إقامته، فرحل إلى مدينة الجزائر، واستمر هناك في تعاطي التجارة، بأن فتح بمعية أخيه محلا لبيع المواد الغذائية بحي السيد الإفريقية.
الأغراض الشعرية صاغ مُحندْ اُولحُسين سحنوني تجربته في الحياة، في قوالب شعرية ونثرية ذات أغراض متعددة، فتحدث عن قيم المجتمع الجزائري النابعة من الحضارتين الأمازيغية، والعربية الإسلامية، وعن القيم الإنسانية. وذكر - على طريقة الكبار - أن الحياة هي فصول من الصراع بين الخير والشر، وبين الرذيلة والفضيلة. أما توازن المجتمع الجزائري فهو يراه في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، إذ لا يمكن بناء المستقبل بتصور »مستنسخ« من الماضي التاريخي، الذي صنعه أهله لأنفسهم في ظروف تاريخية لم تعد قائمة. كما أنه لا يمكن بناء المستقبل بقطع الصلة بماضينا المشرق، الذي يعتبره بمثابة مرجعية نستمد منها القيم والعبرة، تمدنا بخصوصيات ثقافية تميّزنا عن الآخر. كما دعا أيضا إلى عدم السكوت عن مظالم الحكام. هذا وقد ركز مُحندْ اُولحُسين سحنوني كثيرا على أهمية استيعاب العلوم والمعارف العصرية، الضرورية للرقي والتقدم. ولتحقيق ذلك يرى أنه لابد من تعلم اللغات الأجنبية.
البعد الروحي من الطبيعي أن يتمسك بالقيم الإسلامية السمحة، بحكم انتمائه إلى النسب الشريف. فقد برزت عائلته بدورها التعليمي في تدريس القرآن، وتحصين الجمهور الواسع بالتربية الخلقية الصحيحة، عبر التصوف السني على الطريقة الرحمانية. وهذا نموذج لشعره المفعم بالقيم الروحية، ذاكرا فيه أهمية التوبة والعبادة في حياة الإنسان (القصيدة53، ج1، ص196): ويزْرَانْ إمَانِيسْ يَذنَبْ يُوكَرْ يَسْكَادَبْ إذي كَثّرَ ثِيزيلا َ أخِيرَاسْ لَمَرْ يَظلَبْ أسْماحْ ذوڤيذ ْ أيْعَذبْ أعْفُو غُورْ الخالقْ إڤَلا ّ
قيمة التسامح تعتبر قيمة التسامح من القيم الإنسانية السامية التي ضخها الإسلام في العُرف الأمازيغي عن طريق المرابطين الأشراف، الذين نجحوا في تهذيب الكثير من الأعراف المحلية المتميزة بالفظاظة والغلظة. فقد كانت قضية " الثأر" العرفية، تقض مضاجع الناس، فالقتل كان يستوجب القتل ولو كان الزمن طويلا. إلى أن جاء الإسلام فنشر قيمة التسامح، وهلل لها القرويون. ولا شك أن هذه الخلفية التاريخية، بدت واضحة في القطعة الشعرية التالية:( القصيدة 52، ج1، ص194): نَظْلبْ أخْصِيمْ غَرْ ثِيفْرَاثْ لِيسَرْ اُورْ غِيفاثْ أخِيرْ أرّحْمَا نُوقْمَا أيْڤُوزْلنْ ڤيذيمْ نَسْوَاثْ ثُورَا أطْرَاذ ْ نَرْوَاثْ اُولاشْ إمَنْغِي أنْ دِيمَا وي صَبْرَنْ إلبَاطلْ يَعْفاثْ أذِينالْ ثافاثْ نَتسَّ إذاخْيَارْ ذِي لُومَا أما عن كيفية تفعيل قيمة التسامح، وترجمتها إلى واقع معيش، فقد أوضح مُحندْ اُولحُسين، أن ذلك يتم عن طريق مجلس القرية (ثاجْمَاعْثْ)، الذي يسيّره الأعيان، تحت إشراف إمام القرية. وتمسك سكان الزواوة بنظام ثاجْمَاعْثْ خلال فترة الاحتلال الفرنسي، رغم محاولات الاستعمار الرامية إلى استبداله بالقوانين الفرنسية. فقاطعوا المحاكم الفرنسية. هذا ولا تزال ثقافة ثاجماعثْ سائدة في بعض القرى، تساهم في حل خلافات القرويين عن طريق الصلح، بعيدا عن المحاكم الرسمية في كثير من الأحيان (القصيدة 159، ج2، ص24): نُوكْنِي أسْ لقْبَايَلْ أرْ ثُورَا مَازالْ غُورْنَغْ العُقالْ مَارَا نَمْخَلافْ ذِي أكْرَى إيَاثْ لَعْرَاضْ نَسَّاوَالْ تسَا?ينْ أشْرَع ْ ذ َدَرْعَا سَلخِيرْ إفّرُونْ لشْغَالْ هذا ومن الطبيعي أن ينوّه مُحَندْ اُولحُسين بشخصية رائد الإصلاح الاجتماعي عبد الحميد بن باديس الذي انتشرت أفكاره الإصلاحية في بلاد الزواوة. (القصيدة107، ج2، ص126) جاء فيها قوله: أيْڤُولْ الشيخْ بَنْ باديسْ اُورْ يَكْنِي ألْقَدّيسْ اُولا أسْمِي أرَيْسُوفَغْ الرُوحْ أهمية اللغات والعلوم في حياة الأمم أدرك مُحندْ اُولحُسين سحنوني بحكم تجربته الواسعة، أهمية ترقية اللغتين الوطنيتين الأمازيغية والعربية، باعتبارهما مكونين أساسين في هويتنا الوطنية: وفي هذا السياق دعا مُحندْ اُولحُسين إلى ترقية الأمازيغية ورفعها من لغة شفوية إلى لغة مدوّنة، وهذا من باب الحرص على ديمومة تراثها الأدبي الثري، وعلى ازدهارها وخلودها (القصيدة193، ج3، ص90): أشُو يَعْنِي إسَبَّا اُونَسْعَارَا أطََّمْبَا إثَقْبَايْلِيثْ أتسْ- نَارُو؟ أمَسْلايْ يَنَّ بَابَا مَا يَنْسَخْ يَلْهَا أتِسحْفَظ ْ اُونَڤَّارُو كما دعا مُحندْ اُولحُسين سحنوني أيضا إلى عدم حصر اللغة العربية في مجال العلوم الشرعية فقط، وإلى بذل الجهود من أجل ترقيتها وجعلها قادرة على استيعاب العلوم العصرية، فالعربية - برأيه - في حاجة إلى عالم كبير بحجم »أنشطاين« أو من كان على شاكلته، يفتح لها آفاق المعارف والعلوم الحديثة. ذاكرا أن أمريكا قد استأسدت على العالم، ودعمت إسرائيل، بفضل تحكمها في ناصية العلوم والتكنولوجيا، التي وفّرت لها الازدهار في شتى الميادين (قصيدة196، ج3، ص96): ثاعْرَابْثْ ذ َلُغَا لقْرَانْ سَكْرَا بْوينْ تِسيغْرَانْ ذِي دِينِيسْ يَسَّنْ الوَاجَبْ أيْخُوصِيتسْ ِيوَنْ " آنَشْتَايْنْ " نَغْ وينْ إثِيشْبَانْ عَالَمْ لحْسابْ مَتْعَرَّبْ وبالنسبة للإشكالية اللغوية في الجزائر، فهو يطرح العلاقة بين اللغتين الأمازيغية والعربية طرحا تكامليا يوفر لهما التعايش التام، دون غضاضة في الأمر (قصيدة 194،ج3، ص92): ذي لغاث أنَّغْ أنَزْوَرْ أنْغَرْ وَانَسْغَرْ أسْ ثَعْرَابْثْ أسْ ثَقْبَايْلِيثْ وبالنسبة لقضية اللغات الأجنبية، فهو يعتبر تعلمها ضرورة ملحة، يفرضها العصر المتميز بانفجار العلوم والتكنولوجيا (قصيدة194،ج3، ص92): ذِي أصَنْعَا إذڤِي أنْوَخَّرْ اُورْ يَلِي لَحْقَرْ مَا أنْحَفْظِيتسْ أسْ أثْبَرَّانِيثْ وتحدث مُحَندْ اُولحُسين أيضا، عن أهمية العلوم العصرية في نهضة الأمم. لذا لم يتوان عن إدراج التأخر العلمي، ضمن مبررات هزيمة العرب في حرب 1967م. (القصيدة62،ج1، ص216). وعليه حث في شعره بالتلميح والتصريح، على ضرورة تحصين الناشئة بالمعرفة العلمية. وتناول في إحدى حكاياته الموزونة »ذهنية القطيع« التي تقضي على العقل، وعلى الفكر النقدي الضروري للحياة، (حكاية أكْرَارَنْ/ الكباش، ج4، ص96). الهوامش 1- Melica ouennoughi, Algériens et Maghrébins en Nouvelle-Calédonie, Casbah éditions, Alger, 2008, P. 379. 2- Rachid Hocine Sahnouni, Ameslay Inna Baba, vol. 1, P. 17. 3-IBID, vol,2, P.20. 4- أنظر محضر مداولة المجلس التأديبي في الجزء الأول، صفحة 62. 5- Hocine Ait Ahmed, Mémoires d'un combattant, ED/ Bouchene, 1990,P.41. * ferradrezki@yahoo.fr