كثيرون جدا هم أولئك الذين يُشبعونك من معسول القول، بمناسبة وبغير مناسبة، بأنهم أوسع صدرًا، وأرحب أفقا، من أن يَضِيقوا برأي يُبديه صاحبه، كيفما بلغ من مخالفته لرأيهم الشخصي في الموضوع؛ أو يُحِسُّوا بأدنى نوع من الحَرَج أمام موقف يخالف، أو حتى يناقض، ما قد تَعوَّدوا عليه هم من المواقف في ذلك المجال... فإذا أنت أبديتَ لديهم شيئا من الاستحسان لسلوكهم هذا، ولو كان من باب المجاملة وحدها، أقبل الواحد منهم عليك بالأمثال، شعرا ونثرا، وغَمَرك بكل ما عَلِق بذاكرته من أقوال السابقين التي تمدح التسامح مع آراء الغير، وتُثْني على حسن التقدير لمواقف الآخرين، وتوجهاتهم في الحياة.. من تلك الأمثال والأقوال المأثورة، "الاختلاف رحمة"، و"اختلاف الرأي لا يفسد للوُدّ قضية" و"من ألّف فقد استهدف"، إلخ... * ولكن الذي سيطرح مواقف التسامح المعلن هذه للامتحان العملي، هو عَرْضُها على مِحك الواقع الذي سيفصل في أمرها بالإجابة عن السؤال، هل قبول الرأي الآخر نابعٌ من إيمان راسخ يجعله عقيدة ومنهجا في التعامل مع أفكار الغير ومذاهبهم؟.. أم هو مُجرَّد سلوكٍ نَفْعِي، تكتيكي، ونِفاق فكريّ مَبْعَثه كسبُ احترام الناس، والظهور في صورة الإنسان الحكيم، الوقور، الواثق من نفسه، الذي لا تُخيفه مواقف الآخرين.. والغاية المنشودة إنما هي توظيف كل ذلك في رسم الصورة التي يريد لها "المتسامح النبيل" أن ترسخ عنه في أذهان الناس؟.. ولكن تلك الدِّهانات الخارجية، وكل ما يتصل بها من الأصباغ البراقة، لا تَلْبَث أن يَتغير لونُها ويَحُول، كما هو شأن كل شيء مُصطنع مفعول، عند أول اصطدام للمبادئ المزعومة، والمواقف النظرية المعلنة، بصخرة الغرور الإنساني الراسخ في النفوس، وجدار الغرائز الأنانية لدى الجنس البشري، كلما حدث ما يهدد مصالحهم المادية والمعنوية، أو يهز صورتهم في عيون الناس..
الذاتية المفرطة تََكيل بمكيالين والدليل على قوة ما للعوامل الذاتية من تأثير حاسم في صياغة مواقفنا من توجهات الآخرين الفكرية، ولا سيما في الحقول الدينية، والمذهبية، والحزبية... أننا نميل إلى استنكار مَنع طرف من الأطراف من إبداء رأيه، أو عدم الاعتراف له بما نسميه، حينئذ، "حقه المقدس" في أن يَصْدَح برأيه، ويُعِْرب عن وجهة نظره بكل حرية، ولا سيما إذا كان ذلك الرأي المحجور عليه مؤيِّدا لنا، أو مناصرا لتيار نسانده، أو منتقدا ومعارضا لبعض خصومنا، وكل أولئك الذين يكون بيننا وبينهم خلاف ما، سواء كان ذا طبيعة فلسفية فكرية مذهبية.. أو كان مجرد نزاع ماديّ على شأن من شؤون الحياة... أما إذا كان الرأي المحجور عليه، المَحْظور من الظهور، الممنوع من الوصول إلى الناس عَبر وسيلة من وسائل الإعلام والاتصال... صادرا عن أحد خصومنا، فرْدًا كان أم جماعة، أم هيأة... فإننا، آنَئذٍ نُوجد لذلك المنع من المبررات الوطنية، والدينية، والأخلاقية، وغيرها... ما قد لا يخطر على بال!. ذلك أنّّ الميزان الذي نحتكم إليه هو دائما: مصالحُنا المعنوية والمادية.. ولكن، هل معنى ذلك أن معظم الناس محكوم عليهم بأن يَبْقَوْا، في كل الأحوال، سُجناءَ لما تمليه عليهم ذاتيتهم النابتة في أرض الأنانية، والغرور، والكبرياء، وأنواع الغرائز والشهوات؟ من الأمثلة على أن الذاتية كثيرا ما تُخِلُّ بقدرات المَرْإ، مهما تكن مؤهلاته العلمية، فتحمله على ممارسات خاطئة لا يُحسّ وقْعَها على غيره، ولا يتصور ما قد تُلحِق به من الأذى، إلا حين يكون هو نفسُه ضحية لها... وربما كان من أمثلتها الصارخة ما يحياه عدد من رجال الحكم، في كثير من بلدان "الرأي الواحد"، ومعهم الإطارات العاملون في محيطهم، ولا سيما أولئك الذين يتولون لهم مناصب المسؤولية في الصحف وأجهزة الاتصال الثقيلة. فهم في أثناء حكمهم، أو تسييرهم لتلك الأجهزة، يَحِْرمون مواطنيهم من أية فرصة للتعبيرعن آرائهم، وشرح المواقف والأفكار التي يُساءُ إليهم من أجلها، ودَحْض الإشاعات التي يروّجها أعداؤهم عنهم، وتُلفَّق لهم بسببها أفضع التهم.. ثم تنتهي أيام الحكم والمسؤولية، كما ينتهي كل شيْءٍ في هذه الدنيا، وربما احتاج أولئك الحكام وأعوانهم إلى منبر يدافعون منه عن أنفسهم، أو يتصدَّون من خلاله لحملة تشن عليهم، فيحرمون منه، ويعيشون التجربة نفسها التي سبَّبُوا لغيرهم أن يتَجَرُّعَوا أثناءَها المُرِّ من كؤوسها..
و"الأصوليات الإعلامية"، هي أيضا لها باع وذِراع! والمُدهِش أن هذه التجارب المرة، وهذا الاستبداد الذي يصادر الحق المقدس لكل إنسان في ممارسة الدفاع المشروع عن نفسه، في جميع الأوضاع والظروف، لا تغُضُّ الطرف عنه بعض المؤسسات الإعلامية الخاصة وحدها، بل إننا نجد وسائل الاتصال العمومية نفسها، تلك التي يتم الإنفاق عليها، حَصْريًّا، من المال العام، الذي هو مال الشعب، يتصرف فيها الحاكم، ومن يعينهم لتسييرها من أعوانه، كما لو كانت مِلكا شخصيا لهم، لا ينازعهم فيها أحد! ويقع كل هذا، عندنا وعند غيرنا، في مخالفة صريحة، ومفضوحة، لرُوح ونص الدستور، وسائر القوانين التي يَِردُ فيها النصُّ على ما للمواطن من حقوق. ثم إن فعل الشر، مِثلُه مِثلُ فعل الخير، كثيرا ما ينتقل بالعَدْوى، من شخص إلى شخص، ومن هيأة إلى هيأة، في بلدان "الرأي الأوحد". ومن علامات هذا الوباء المستشري في كثير من المؤسسات الإعلامية الخاصة (جِدًا!) في بلادنا، أن كثيرا منها يتصرف فيها أصحابها ومسيروها على أنها أحزاب إيديولوجية، ذات عقيدة شمولية لا تُفرّط فيها، ولها "خط" صارم تناضل من أجله، وتحارب في سبيله، بلا هَوادة، فلا تُفتح صفحات تلك الجرائد إلا لمن يشاركها ذلك الخط. ولا تُحْشَد لها إلا الأقلام التي تُرَوِّج له، وتدافع عنه. والويل والثبور لمن يتجرأ على الاقتراب منه بنظرة نقدية، أو يكون له فيه رأي مخالف، أو موقف غير مطابق؛ فهو حينئذ يَغْدو الخصمَ الأشَدّ، والعدو الألَدّ. يُهاجَم بالاسْم في أعمدة تلك الصحف بالطول والعَرْض، ولا ينجو له من مخالبهم لا شرف ولا عِرْض.. فتُشوَّه أفكاره، وتُمسخ آراؤه، ويصور تارة بأنه أصولي، وأخرى بأنه شيوعي، وثالثة بأنه بعثي... وكثيرا ما تُجمع لوصفه النعوت المتناقضة، التي لا تجتمع إلا عنده، وعند نُظرائه، وأمثاله المتهمين على الدوام... وكأنه محرّم على الجزائري أن يكون في هذا التصنيف أو في ذاك؛ ولكنْ ألفُ حلال عليه أن يكون في كل التصنيفات الأخرى، بما فيها تلك التي لا تؤمن لا بالوطن، ولا برموز استقلاله، ولا بعناوين سيادته، ولا بأيّ من ثوابته التي هتف بها الشهداء وهم يُسْلِمون الروحَ لترقى نحو بارئها في معارج الخلود والسعادة الأبدية.. ولكن، إذا أراد المتهم الانتصاف لديهم بممارسة جزءٍ بسيط من حقه الثابت في الردّ أو التصويب، منعوه عنه، وازدادوا غلوا في معاداته، وأمعنوا في تناوله بكل بَذِيءٍ من الألفاظ، وساقط من مفردات القدح والشتيمة التي قد تتجاوزه بوقاحتها إلى أفراد أسرته..! وربما كان بإمكان الكثيرين من الذين طرقوا المواضيع التي طرقناها في سنوات خلتْ أن يسردوا قصص القمع والاضطهاد التي تروي كيف اكْتَوَوْا بنار هذه العصبيات الصحفية، وهذه "الأصوليات الإعلامية" التي لا تتوقف عن الادعاء بأنها منارات للتسامح الفكري، بينما هي في حقيقتها لا تُطيق أن تنظر، مجرد النظر، إلى من تتهمهم بأغرب ما يتخيله المرء من التهم. ولو أننا سمحنا لنفسنا بأن نسرد أطرافا من قصص تلك العصبيات الإعلامية التي كنا شاهدَ عيان عليها، لملأنا منها صفحات كثيرة لا يحتويها إلا كتاب خاص بها.. بَيْدَ أن ذلك ليس لا من منطلقات هذه المقالة، ولا من مقاصدها ومراميها. ولكن للحياة في هذه الدنيا صروف وتقلبات عجيبة، تتغير بموجبها الأدوار، وتتبدل الأحوال، وتَهْزَأ الدنيا بناسها، فيذوق البعضُ منهم طعم الغُصة التي جَرَّعَها لغيره، ويَكْتَوي بنار الجُذوة نفسها التي كَوَى بها الآخرين، قبل أن يسقط في ذات الجُب الذي أسقط فيه غيره.. ليس المقصود بهذا الكلام إنسانا بعينه، وإنما نحن هنا نصف أنموذجا من الإعلاميين ذوي النبضات الفئوية، والانتماءات التغريبية، يجمعون بين معارضة الحاكمين ومعارضة كل المعارضين الذين لا يشاركونهم منهجهم في النقد العَدَمِيّ، وأسلوبهم المتطرف في الخلط بين الحياة الخاصة لمن ينتقدونهم، وبين سياساتهم وامتداداتها التطبيقية في الميدان. مع إخراج كل ذلك في قالب يوحي لقارئ تلك الصحف بأن أولئك المعارضين هم من الخَوَنة، المارقين، الذين ليسوا جديرين حتى بأن يكونوا مواطنين في هذا البلد..
ولكني أكافح حتى الموت من أجل أن تقول رأيك.. كان مسؤولا في صحيفة متواضعة السحب، توشك أن تكون جريدة مخصوصة لفئة متجانسة من القراء، تجمعهم في رحابها أهداف، لا علاقة لأكثرها بما تتطلع إليه جماهير المواطنين، خارج شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذه كلها صارت منذ مدة مطالبَ عامة لا يَشُذ عنها أحد؛ كما تجمعهم أحلام وأوهام.. فأما الأحلام فلا شيء يضمن لهم أنها لو قُدِّر لها أن تتحقق تكون حقا في صالحهم، وتعود بالخير عليهم وعلى من يشاركونهم السعي الحثيث إليها. وأما الأوهام، فهي كما يدل اسمها عليها مستحيلة التجسيد، لأنها ضد الصيرورة العادية لطبيعة الأشياء، وهي مناظر سرابية خداعة لا مردود لها إلا مضاعفة الشعور بالعطش لدى الظَّمْآن التائه، بلا دليل، في الفيافي المقفرة. كان ذلك المسؤول الصحفي يتمتع بذكاء خارق لا ينكره عليه أحد. وكان ذا قلم بديع، يُنْطِق الصُمّ، ويُنْزلُ العُصْم كما كان يقول شيوخنا الأوائل ولكنّ الأهداف الفئوية، والأحلام الطوباوية، والأوهام التغريبية.. أخرجتْ كلام الناقد عن موضوعيته، وأحالته إلى تطرف حاقد، ظل يقوى ويتصاعد، حتى نال لهيبُه المشتعل، من قال فيه الشاعر "لا تُعاندْ مَن إذا قال فَعَلْ "! فأعطى ظهره المكشوف لِمَن أذاقوه المرّ صنوفا وألوانا.. ونكّلوا به تنكيلا لم يجد معه حتى من يتضامن معه من الرفاق الذين لم يزيدوا على أن استنكروا، في عمود أو عمودين من صحفهم، ما يلقاه، في مأساته، من شديد الأذى وصارم العقاب.. في ذِروة معاناته، تذكرنا، من غير تَشَفٍّ، ما لقيناه منه، وما صبَّحنا ومَسَّانا به من الأذى المُوجع، والعداوة المجانية، نحن ونَفَرٌ من أصحابنا الذين ساروا معنا، متطوعين مثلنا، أشواطا بعيدة في الدرب الذي كنا فيه سائرين. وكان أقسى ما آلمنا منه أنه في إحدى افتتاحيات صحيفته التي جاءت تقطر حقدا على من لا ذنب لهم إلا أنهم يدافعون هم أيضا، ولكن بالطرق السلمية، في غير تطرف ولا عنف، عن "خَط" آمنوا بصحته ونفعه لحاضر الأمة ومستقبلها، فانبرت تلك الصحيفة، كشقيقاتها، تُحصي أنفاسهم، وتعُدُّ خطواتهم. وقد هالنا أنّ صاحبنا المذكور، بلغ من شدة الحَنَق علينا أنْ اسْتَعْدَى علينا السلطة! أجل، استعدى علينا تلك السلطة ذاتها التي جفّتْ أقلامُه في عدّ مساوئها، والتي لم يَتركْ كلمة توصَفُ بها طبائع الاستبداد، وتُذمُّ بها مسالك الفساد إلا نَعَتَها بها..ها هو في واحدة من عيون افتتاحياته يسْتَعْديها علينا، ويُحَرّشها ضدنا، لِفَضِّ اجتماع قانوني لنا، في قاعة، بالضرب والدخان..كما فعلت، حسب قوله لتفريق مظاهرة في الشارع لم يُرخَّصْ لها، متسائلا، في جُرأة مدهشة، لماذا لا يفرَّق جمع هؤلاء، كما تفرق مظاهرة أولئك؟! كنت يومئذ قد انقطعت عن الكتابة في الصحف منذ سنوات. وأقسم بالذي لا إله إلا هو، أنني تمنيت، يومئذ، أن لا أكون قد انقطعتُ عنها لأكتب مؤيدا له، متضامنا معه، مستنكرا لما يلقاه من العقاب على مواقفه؛ وإن كنت، كما أسلفت، أعترف بأنه قد أفرط فيها وبالغ..ولكنها مع ذلك، في رأيي، لا تبرر كل ذلك العقاب الذي سلط عليه. المبادئ لإنسانية العظمى لا يعلو أصحابها بتعظيمها عندما تكون خادمة لأهدافهم وحدهم. ولكن يَسْمُون هم بها، وتنتصر هي بهم، حينما يحرص الجميع على تعظيمها واحترامها سواء حين تخدم أهدافهم، أو حين تخدم غيرهم. ولو كانوا خصوما مناوئين!.. في أدبيات الإعلام مقولة مشهورة، يعرفها جلُّ الإعلاميين، وهي المنسوبة، بغير حق، لأديب فرنسا الكبير، وفيلسوفها الشهير، "فولتير"، وترجَمَتُها، وفق واحدة من صيَغها المتداولة، "أنا لستُ موافقا على ما تقوله أنت، ولكنني سأكافح حتى الموت من أجل أن يكون لك الحق في أن تقوله"!.. هل يُقدَّر للبعض من أفراد جيلنا أن يعيشوا حتى يشاهدوا شيئا من هذا التسامي تُوِرق أغصانه، وتنضُج ثماره في حدائق الوطن المنكوب؟ * madrasala@hotmail.com