وجد العالم العربي نفسه فجأة وسط بحر هادر من فضاء متخم بمادة إعلامية مبهرة، أصابته بحالة من عدم التوازن والمراوحة في نفس المكان، غير قادر على تحديد موقفه منها والطريق الصائب للتعامل مع وضع لا يمكن أن يظل بمنأى عنه، وإلا غرق وسط هذا الهدير الهائل الذي لا يرحم ولا ينتظر المتقاعسين أو المترددين طويلاً، فما كان منه إلا أن دخل في الميدان ليعلن أنه موجود وأنه قادر على الفعل. لكن الحقيقة أنه دخل حلبة صراع لم يحدد هو قواعده، بل والأكثر من ذلك أنه يجهلها، لكنه بعد دخولها راح يسأل عنها، وهذا أحدث خللاً كبيراً في كيفية المواجهة وضبط الإيقاع، ما جعل زمام المبادرة الإعلامية في غالب الأحيان ليس في يديه، واكتفى بأن يلعب دوراً ثانوياً في المشهد الإعلامي، وإن شئت الدقة دور المتبع غير المبتدع، وهذه أم المشاكل التي تواجه واقعنا الإعلامي. وأولى خطايا إعلامنا العربي هي المنطلقات التنظيرية أو الفكرية، التي أسست لكثير من ممارسته على أرض الواقع، والتي تعتمد في مرجعياتها اعتماداً يكاد يكون كلياً على المدارس الغربية، التي تختلف في ظروفها التاريخية ونسقها القيمي عن واقع مجمعاتنا، ما جعل إعلامنا يسير في طريق من التقليد لحزمة من البرامج لا تثقف فكراً ولا تعلم أميا ولا توعي من لا يعلم، بل تغرقه في متاهات من الصخب والتسطيح والتغريب والتغييب، فضلاً عن استيراد مئات البرامج لملء ساعات الإرسال لقنوات باتت لا تحصى عدداً، ولكن ضعيفة المضمون واهنة القيمة والأثر. الشاهد أن إعلامنا العربي لم يقدم الصورة الحقيقية لواقع أمتنا العربية، أو لتاريخها الحضاري الذي يجهله العالم أو يتجاهله، فضلاً عن قطاع غير هين من أبنائه، ولم يقدم دعماً للقضايا العربية ومخاطبة الرأي العام العالمي باللغة التي يفهمها.. ولا عجب في ذلك ما دام هو ذاته معنياً ليل نهار بمتابعة غيرنا، ابتداء بالخطاب السياسي وليس انتهاء بآخر صيحات الأزياء لنجمات هوليوود وعلاقاتهم العاطفية. على الجانب الآخر، وبدلاً من أن يكون هذا الإعلام قطب الرحى في إدارة الأزمات التي تواجه أمتنا، وهي كثيرة، ورافعة كبرى من روافعها، وأن يوحد الصف العربي عن طريق التماهي والتناغم بين الخطاب الإعلامي وطموحات أبناء المنطقة من المحيط إلى الخليج، كما كان حاله في زمان فات، يوم أن كان صوت المذياع يوحد المشاعر والمواقف العربية تجاه ما يتهددها، عبر السمو فوق المصالح القطرية والمكاسب الآنية، بات هو ذاته في كثير من الأحيان صانعاً لأزمات يقتات عليها ويصدرها، وآية ذلك أن كثيراً من عوامل التشرذم وتقطيع الأوصال والوشائج بين الشعوب العربية، كان نتيجة مباشرة لخطاب إعلامي متعصب لم يراع جوارا أو مشاعر شعوب، أو دماء مشتركة جرت في نهر الكفاح إبان التحولات الكبرى في تاريخ المنطقة، عبر أعمال درامية هزيلة أو كارتون مسيء أو حوارات أشبه ما تكون بصياح الديكة، زادت من الشقاق والخلاف بين أبناء اللحمة الواحدة. إن إعلامنا العربي لن تعود إليه روحه ويسترد وعيه، إلا يوم أن يتحرر من التقليد والتبعية اللذين لن يتم الخلاص منهما إلا يوم أن يدرك الدور المنشود الذي يجب أن يقوم به، والمهمة الثقيلة التي يجب عليه أن يحملها على عاتقة في مواجهة كل معوقات التنمية، من أمية أبجدية فضلاً عن التكنولوجية، والنظرة الدونية للمرأة ودورها في المجتمع، والصراعات الدينية في بعض بلداننا العربية حول بناء المساجد أو الكنائس، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى بناء المصانع والمدارس ومراكز الأبحاث، ودعاة، قليلو العلم والفقه بمجريات العصر وواقع الناس، خرجوا علينا بفهم قاصر للدين، يفرق ولا يجمع، ينشغل بالفصل في قضايا التاريخ وأبطاله من كان على صواب ومن أخطأ، وقد أفضوا جميعاً إلى ما قدموا، غافلين عن واقع يزداد تأزماً بين أبناء البلد الواحد، بل يشاركون في زيادة عُقده عقداً جديدة.. هؤلاء هم دعاة الفتنة الذين يطفئون نار التعصب بسكب المزيد من الكيروسين عليها عن عمد، وهذه جريمة، أو عن غير عمد وتلك مصيبة، في زمن بات بمقدور أنصاف العلماء ومدعي احتكار الحقيقة، أن يخرجوا علينا لينشروا فكراً بعيداً عن الشريعة السمحاء والدعوة الوسطية الجميلة، التي تستوعب التقي وتنادي من خرج عليها دون تجريح أو إيذاء. كما أن على الحكومات أن تدرك أن الإعلام الحر هو الضمانة الحقيقية للحفاظ على الأوطان، وأن إخفاء الحقائق بات من المستحيل في عصر تدور المعلومة فيه حول الكرة الأرضية بسرعة تعادل سرعة الضوء، كما أن من صالح الحكومات ذاتها أن تكون وسائل الإعلام بمثابة العين الثالثة التي يستطيعون من خلالها رؤية أوجه الخلل في المجتمع، وتداركها قبل أن تتفاقم ويستحيل علاجها وأن تلعب دوراً رقابيا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولن يكون ذلك إلا برفع سقف الحرية والمسموح به، في إطار من الالتزام المهني والضوابط الأخلاقية التي هي السياج الحامي للممارسة الإعلامية الصحيحة. إن النفس العربي والرائحة العربية في الرسالة الإعلامية، شكلاً ومضموناً، لن يتأتيا إلا إذا أدركنا أننا أمة واحدة ذات رسالة راسخة، تجمعنا آمال وطموحات مشتركة، وأن التحديات التي نواجهها لن تقتصر على شعب دون غيره. تلك حقيقة تاريخية يجب أن تظل ماثلة أمامنا، لذا فمن الرعونة بمكان مواجهة هذا السيل الجارف والصوت الزاعق من وسائل الإعلام الغربية، ونحن كمن يهمس في الآذان. إن الأمة العربية غنية بأبنائها المبدعين القادرين على تقديم نموذج إعلامي نابع من عمق حضارتنا، بزخم يحمل عبق سني المعاناة ونجاحات الحاضر وآمال المستقبل وتطلعاته.. كيف لا وهذا الحراك الإعلامي الذي نراه سيتمخض لا محالة عن معايير مهنية تواكب وتساير الحراك المجتمعي.. معايير تحترم عقل الجمهور وذوقه، دون أن تغازل مشاعره وتدغدغ غرائزه.. معايير لا تنشر الفوضى ولا تحث على التفلت باسم الحرية، لكنها تعظم من الحرية المسؤولة وتجعل من الضمير المهني رقيباً قبل كل رقيب.. معايير تجعل الكل سواء أمام مرآة الشعوب، وتجمع أبناء الوطن ولا تفرقهم تحت دعاوى المذهبية والعصبيات النتنة.. تقول الحق، ولكن دون تجريح أو إيذاء.. تعلي من كرامة الإنسان وحقه في المعرفة، لكن دون تشهير.. تغلب مصلحة الأمة على مصالح الأفراد.. وعندئذٍ فقط سنقول إن إعلامنا العربي قد عادت إليه الروح.