تبقى الشرطة الجهاز الأمني الذي سجل في صفوفه أكبر عدد من ضحايا الواجب الوطني، ولا توجد أرقام رسمية عن عدد ضحايا الإرهاب من أفراد الشرطة، لكن بعض الإحصائيات تشير إلى أكثر من 10 آلاف ضحية، إضافة إلى مئات المعاقين والمصدومين نفسيا، ولم يعد الحديث عن الفئة الأخيرة من "الطابوهات" بل يعد اليوم من انشغالات المديرية العامة للأمن الوطني التي أنشأت خلايا للتكفل النفسي بموظفيها الذين يواجهون مشاكل نفسية لمواجهة أيضا ما أصبح يعرف ب "الانتحار المهني" بعد إحصاء متوسط 10 رجال شرطة ينتحرون سنويا. حيث سجلت 42 حالة انتحار في صفوف الشرطة خلال الفترة الممتدة بين سنة 2003 و2006، وأغلب حالات الانتحار تم إحصاؤها سنة 1997، وهي الفترة التي عرفت سلسلة من المجازر الجماعية، ويجري اليوم تركيز العمل النفسي على الفرق المتنقلة للشرطة القضائية كإجراء وقائي، خاصة وأن الخبراء يؤكدون أن جميع أفراد الشرطة الذين كانوا نشطين خلال سنوات العنف تعرضوا بصفة مباشرة أو غير مباشرة لصدمات نفسية. إذا كان الخبراء يربطون تفشي الانتحار في صفوف رجال الشرطة بالوضع الاجتماعي العام للبلاد الذي يعرف ارتفاعا في السنوات الأخيرة، وأن الشرطي هو في الأخير مواطن يتأثر بمحيطه، مستندين إلى الدوافع التي لا تخرج عن المشاكل الاجتماعية والعائلية مثلما تكشفه التحقيقات في حالات الانتحار وسط رجال الشرطة، إلا أن الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد لمدة تجاوزت أكثر من عشرة أعوام خلفت آثارا سلبية على أفراد الشرطة الذين كانوا في الصفوف الأمامية في مواجهة الإرهاب الذي كان يعتبر ظاهرة جديدة على المجتمع الجزائري، ويقول خبراء نفسانيون إن الشرطي الذي اغتيل زميله أمامه أو شاهد صور الرؤوس المقطوعة والجثث المتفحمة والسيارات المفخخة وعاش تهديدات مستمرة ينتظر الموت في كل لحظة بعيدا عن أهله وأسرته، يكون بالضرورة معرضا لمشاكل نفسية وبحاجة إلى متابعة نفسية، ويؤكد هؤلاء أن جميع أفراد الشرطة الذين كانوا في الميدان خلال سنوات الإرهاب بحاجة اليوم إلى تكفل نفسي، لأن المرحلة التي عاشوها لم تكن سهلة أبدا، كما أن الشرطي "يتميز" عن المنتحرين الآخرين بأنه عكسهم يملك وسيلة الانتحار التي لا تترك له فرصة للنجاة. أنظروا إلى الشرطي كإنسان فقط كان يكفي طرح موضوع الانتحار في صفوف أفراد الشرطة على عميد أول شرطة بلعربي صالح حمدان، مدير المصلحة المركزية للصحة والنشاط الاجتماعي والرياضات التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني، في لقاء به ليؤكد على ضرورة اعتبار الشرطي أولا مواطنا وإنسانا من لحم ودم، لكنه يعمل في سلك الشرطة، وقد يقدم على وضع حد لحياته، لأسباب تكون غالبا إجتماعية وعائلية "وليس لأنه شرطي" موضحا أن الانتحار ليس ظاهرة خاصة بجهاز الشرطة، لكنها اليوم ظاهرة اجتماعية عامة لم تستثني رجل الأمن. وقال عميد أول بلعربي إن نسبة رجال الشرطة الذين ينتحرون تعتبر ضئيلة جدا مقارنة بمجموع المنتحرين "لكن هذا الموضوع يشكل اليوم أهم انشغالات المديرية العامة للأمن الوطني حتى وإن سجلنا حالة واحدة"، وأشار إلى الإجراءات الأخيرة التي اتخذها المدير العام للأمن الوطني "لضمان الاستقرار النفسي لموظف الشرطة ومنها مردوديته في الميدان" أهمها التركيز على تحسين الظروف المهنية والاجتماعية لموظف الشرطة، خاصة في مجال السكن والصحة والإعانات الاجتماعية، موضحا أنه يتم أيضا التكفل بمتقاعدي الأمن الوطني وذوي الحقوق وعائلات موظفي الشرطة. وأكد مدير المصلحة المركزية للصحة والنشاط الاجتماعي والرياضات أن إنشاء مكتب للتكفل النفسي تابع للمديرية يندرج في إطار "حرص المديرية العامة للأمن الوطني على التكفل بموظفيها الذين يواجهون صعوبات نفسية" وأوضح أنه تم إنشاء هذا المكتب رسميا عام 1995 وهي الفترة التي عرفت تصعيدا في أعمال الإرهاب التي كانت تستهدف رجال الشرطة، وكان يجري التكفل بأفراد الشرطة الذين كانوا يواجهون ظروفا إستثنائيا والموت كل لحظة، لكن كان عليهم الاستمرار في المقاومة، وكان التكفل محدودا وجندت المديرية العامة للأمن آنذاك أربعة مختصين نفسانيين، لكن الوضع بعدها فرض الاهتمام أكثر بهذه المصلحة لتنطلق في النشاط رسميا سنة 1998 وتعمم على المستوى الوطني، وتوجد اليوم 45 خلية فرعية تابعة لهذه المصلحة التي يشرف عليها كشاشة بوعلام، وهو طبيب نفساني رئيسي يتمتع بخبرة واسعة في المجال، نشط عدة ملتقيات وندوات حول الصدمات النفسية في صفوف الأمن الوطني. وقال السيد كشاشة ل "الشروق" بشأن هذا الموضوع، إننا اليوم بصدد البحث عن حلول عاجلة "و لجأنا إلى تبني العمل الوقائي من الانتحار أو الانهيار العصبي، مهمتنا الأساسية هي تفكيك مشروع الانتحار لدى الشرطي واستئصاله نهائيا من خلال لغة الاتصال والحوار، لأنه في الأصل يبحث عمن يسمعه ويصغي إليه، وهذا ضروري وأساسي لأنه لا يشعر بالعزلة أو أنه وحيد، بل هناك من يسانده"، لكن ما هي الأسباب التي تدفع الشرطي لوضع حد لحياته مع إدراكه النهاية باستعمال سلاحه الناري؟ وكيف يمكن الوقاية من ذلك؟ سأل الدكتور كشاشة الذي يحدد الأسباب في الضغوطات المهنية التي تواجه الشرطي، موضحا أنه قد يكون الموظف الوحيد غير المرتبط بمواقيت عمل محددة "لا يعرف متى يغادر عمله بالضبط وقد يواجه طارئا، مما يجعله متوترا وقلقا في مواجهة حدث مجهول" إضافة إلى احتكاكه مع المواطنين باختلاف أمزجتهم وسلوكاتهم، ولا يجب أن ننسى أنه ينتمي إلى هذا المجتمع بسلبياته وإيجابياته، ولا يمكن أن نعتبره شخصا فوق العادة معصوم من الخطأ". ويأتي في المرتبة الثانية البعد عن الأهل، فأغلب رجال الشرطة يعملون بعيدا عن عائلاتهم، مما يؤثر على استقرارهم النفسي، مشيرا إلى دور الأسرة في تحقيق توازنهم، و تضاف إلى هذه الأسباب المشاكل اليومية التي يعاني منها أي إنسان وتتباين درجة كل واحد في مواجهتها وتجاوزها، لكن الخبير النفساني يلح على أن القلق هو الدافع الرئيسي لإقدام الشرطي على الانتحار. 10 موظفي شرطة ينتحرون سنويا و10 آخرون كانوا يغتالون يوميا تكشف الأرقام المتوفرة لدينا أن 10 موظفي شرطة ينتحرون سنويا، أغلبهم تتراوح أعمارهم بين 28 عاما و42 عاما وضعوا حدا لحياتهم بسبب خلافات عائلية، لكن هذا العدد ليس ثابثا على خلفية أن 23 شرطيا إنتحروا خلال الفترة الممتدة بين سنوات 1997 و 2005 من بينهم 11 شرطيا إنتحروا فقط عام 1997 وهي السنة التي شهدت سلسلة من المجازر الجماعية التي خلفت مئات الضحايا المدنيين من سكان أحياء بن طلحة، بني مسوس، الرايس، الرمكة بغليزان، وما رافقها من صور بشعة غير مسبوقة، وتواصلت معها عمليات اغتيال أفراد الشرطة. وتشير الإحصائيات المتوفرة لدينا أن 137 شرطيا إنتحروا منذ اندلاع أعمال العنف سنة 1991 إلى غاية 2005؛ أي في ظرف 15 عاما، منهم 62 شرطيا وضعوا حدا لحياتهم من مجموع 45 ألف شرطي بين سنوات 1991 و1999؛ ما يمثل نسبة 0،13 بالمائة من مجموع موظفي الشرطة مقابل 77 شرطيا من مجموع 115 ألف شرطي إنتحروا خلال الفترة الممتدة بين 2000 و2005؛ أي ما يعادل 0،06 بالمائة من إجمالي موظفي الجهاز، وإذا كانت الأرقام تشير إلى ارتفاع عدد المنتحرين في صفوف الأمن في الفترة التي شهدت استقرارا على الصعيد الأمني بعد تطبيق قانون الوئام المدني، إلا أن الخبراء يشيرون إلى مراعاة إرتفاع عدد موظفي الشرطة. تعليمة تونسي تحمل مسؤولي الأمن مكافحة الظاهرة ويكشف الدكتور كشاشة من جهته، أنه تم خلال سنة 2003 تسجيل 10 حالات إنتحار في صفوف الشرطة مقابل 11 حالة عام 2004 لترتفع النسبة إلى 17 حالة سنة 2005، لكنه بدا متفائلا بالنتائج المحققة مؤخرا، حيث تم تسجيل 4 حالات إنتحار منذ بداية السنة الجارية وأكد المختص النفساني أن المديرية العامة للأمن الوطني وضعت مخططا خاصا واستعجاليا في إطار التكفل بموظفيها مستنبطا من التجارب السابقة وتم فيه تدارك الثغرات والنقائص، معترفا أنه "كان يمكن إنقاذ بعض الموظفين قبل إقدامهم على الانتحار بواسطة جهود أكبر" و كشف الخبير النفساني ل "الشروق" أنه تم بناء على تعليمة العقيد تونسي، المدير العام للأمن الوطني، تنظيم حملة تحسيسية في صفوف الشرطة، كما تم إعداد بطاقات تقنية خاصة بكل موظفي الأمن يشرف عليها مسؤولوهم المباشرون، وسبقت ذلك تعليمة سابقة وجهها العقيد تونسي إلى جميع رؤساء أمن الولايات يحثهم فيها على ضمان التكفل المهني والاجتماعي والنفسي لأفراد الشرطة والاهتمام خاصة بالموظفين الذين يواجهون صعوبات ومشاكل نفسية، وأوضح الدكتور كشاشة أن المسؤول المباشر عن الموظف يحرر تقريرا في حال تسجيل بعض الأعراض غير العادية عليه "لقد أطلعناهم على حوالى 13 حالة، وإذا سجلوا خمسة أعراض يوجهون للخلية تقريرا نتحرك بموجبه"، وأضاف أنه يتم مباشرة بعد ذلك تجريده من سلاحه كإجراء وقائي لعدم استعماله مثلا في الانتحار ثم إحالته على عطلة مرضية؛ لأنه غالبا ما يكون الضغط المهني الكبير وراء اضطراباته السلوكية والنفسية، وللتخفيف من ذلك يتم تحويله إلى مصلحة إدارية لضمان استقرار حالته النفسية واعتبر الدكتور أن هذه الإجراءات حققت نتائج إيجابية، مستندا إلى عدد المنتحرين مؤخرا. إنشغال المديرية العامة للأمن الوطني بالتكفل النفسي لموظفيها لم ينحصر في المتابعة النفسية، حيث يكشف المشرف على المصلحة أن أكثر من 4 آلاف شرطي يخضعون سنويا للفحص النفسي، وتتم متابعة 3 آلاف شرطي يعملون بمصالح الشرطة النشطة، وفي هذا السياق يجري تركيز التكفل النفسي على أفراد الفرق المتنقلة للشرطة القضائية لطبيعة عملهم، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة، مما يخلق لديهم ضغطا. وسعى الدكتور كشاشة للتوضيح طيلة اللقاء أن هؤلاء لا يعانون من اضطرابات عقلية، بل مشاكل نفسية ناتجة عن العوامل السابقة وسلسلة الأزمات والكوارث الطبيعية في السنوات الأخيرة من زلازل وفيضانات "لدينا خلية تدخل نفسي في الأزمات ليست خاصة بموظفي الشرطة، بل تعاملنا أيضا مع المواطنين". 926 شرطي مصدوم نفسيا وأسفرت عملية "التمشيط" (المسح) التي قامت بها خلية التكفل النفسي وشملت موظفي الشرطة الذين عملوا في إطار مكافحة الإرهاب منذ سنة 1993 وانطلقت عام 2003 عن تحديد 926 شرطي مصدوم نفسيا تم إخضاعهم لعلاج نفسي، وأشار الدكتور كشاشة إلى إدماج 223 موظف منهم في مناصبهم الأصلية بعد متابعتهم نفسيا فيما لا يزال الآخرون تحت العلاج، ولا تزال العملية متواصلة للتعرف على جميع المصدومين نفسيا "لتشريح حالتهم، ونركز على الوقاية قبل تعقد الحالة وتطور الحالة إلى مرض"، وتحدث عن مشروع تجري دراسته، يتمثل في عدم تسليح الموظفين مباشرة بعد التخرج، بل بعد مرور فترة على التوظيف لمعاينة مدى قدرته النفسية على مواجهة متاعب المهنة، وجرى في وقت سابق إدراج الفحص النفسي في شروط التوظيف، لكن الخبراء يلحون على المتابعة النفسية لموظف الشرطة بصفة دائمة طيلة فترة عمله، على خلفية أن الشرطة مهنة ليست بالسهلة والاستمرار يتطلب صبرا طويلا. الشرطة والتائبون.. المعادلة الصعبة السؤال كان محرجا لكنه جدير بالطرح: ما علاقة الصدمات النفسية والانهيارات العصبية والتوتر لدى الشرطي بقانوني المصالحة والوئام المدني؟ ما هو رد فعل الشرطي الذي يواجه إرهابيا سابقا عاد اليوم إلى المجتمع ويعيش حياة عادية؟ هل تم إعداد الشرطي لهذه المرحلة؟. لمسنا تحفظا في الرد على هذه المسألة، لكن الخبير النفساني يؤكد أن الشرطي يتعامل مع المواطن، وهذا الإرهابي هو في الأخير مواطن قبل أن يتدخل إطار في الشرطة ليؤكد أن "الشرطي هو موظف دولة يخضع لقراراتها ويسهر على تنفيذها" أما بشأن تردي الوضع الأمني مؤخرا وعودة السيارات المفخخة، وفي رد حول الإجراءات التي تكون قد اتخذتها خلية التكفل النفسي، أكد الدكتور كشاشة على المتابعة المستمرة للموظف نفسيا، حيث تدخل الأخصائيون مباشرة بعد تفجيري درڤانة والرغاية؛ كون الأعوان موظفين جددا وتخرجوا حديثا. نائلة.ب: [email protected]