تثير المواقف الفرنسية المتذبذبة من الجزائر ودورها في الصراع الدائر في ليبيا علامات استفهام كثيرة وتهدد بنسف الجهود التي بذلت من أجل إنهاء حالة من التوتر استمرت لفترة طويلة، وهذه المرة تبدو الحسابات الإقليمية والانتخابية وراء الموقف الفرنسي المتناقض وغير الثابت . فرنسا كانت ضمن الدول القليلة التي بادرت إلى التعليق على الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوتفليقة منتصف الشهر الجاري، فقد اعتبر وزيرها للخارجية "آلان جوبيه" الإصلاحات جيدة وسيرا في الاتجاه الصحيح، قبل أن يعود ليؤكد أن هذه الخطوة غير كافية وأنه لا بد لها من تتمة، ولا ينفصل هذا الموقف عن السياق العام الذي تتحرك فيه الدبلوماسية الفرنسية خلال الشهرين الأخيرين. منذ شهر فيفري الماضي باشر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي دبلوماسية تدخلية مندفعة من أجل محو آثار الأخطاء الفادحة التي ارتكبها خلال مطلع السنة الجارية، فقد تأخرت باريس كثيرا في فهم ما يجري في تونس إلى درجة أن وزيرة الخارجية السابقة ميشال آليو ماري اقترحت على الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي مساعدة من أجل قمع المتظاهرين قبل أيام قليلة من الإطاحة به، ولم يكن الموقف من الأحداث التي شهدتها مصر أفضل بكثير، ومباشرة بعد سقوط نظام بن علي تعرض ساركوزي ووزيرة خارجيته إلى انتقادات شديدة من المعارضة ووسائل الإعلام انتهت بتقديم آليو ماري استقالتها ليخلفها آلان جوبيه، وكانت الخطة هي إعادة رسم صورة فرنسا في المنطقة العربية، والسعي إلى استعادة المواقع التي خسرتها فرنسا بفعل التحولات التي تعرفها المنطقة. أول فرصة سنحت كانت بداية التمرد على نظام القذافي في السابع عشر من شهر فيفري الماضي، فقد سارعت باريس إلى إعلان موقفها الداعم للمتمردين، وكانت أول دولة في العالم، وتكاد تكون الوحيدة إلى الآن، تعترف بالمجلس الانتقالي الليبي كممثل شرعي للشعب الليبي، وفوق هذا لعبت دورا أساسيا في قيادة العمليات العسكرية ضد ليبيا في إطار تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 والذي نص على فرض حظر جوي على ليبيا من أجل حماية المدنيين، وقد كان الدور الفرنسي هذه المرة أيضا محل انتقادات واسعة من قبل المعارضة السياسية ووسائل الإعلام في فرنسا والتي رأت أن التسرع في الاعتراف بالمجلس الانتقالي كان خطأ سياسيا وأن بقاء فرنسا وحيدة ضمن الدول الأوروبية والغربية هو دليل على أن هذا الاعتراف جاء قبل الأوان، وكان أحد أهم الأسباب التي جعلت سياسة ساركوزي محل نقد هو الاشتباه في استغلاله للقضايا الدولية من أجل تقوية مركزه السياسي استعدادا للانتخابات الرئاسية التي ستجري سنة 2012 ، وهناك مؤشرات كثيرة تعطي هذا التحليل مزيدا من المصداقية. العلاقة مع الجزائر لم تكن في منأى عن هذه التقلبات في الفترة الأخيرة، فإعلان باريس عن دعمها للإصلاحات التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة في خطابه جاء منسجما مع مواقف دول أخرى مثل الولاياتالمتحدة، غير أن المطالبة بالمزيد والحديث عن ضرورة استكمال الإصلاحات بقرارات أخرى جاءت لتؤكد تخبط باريس خاصة بعد أن أعلنت المعارضة هنا في الجزائر عدم اقتناعها بما ورد في الخطاب، فقد جاء التصريح الفرنسي الأول سريعا وسبق المواقف الداخلية، غير أن الخشية من تكرار أخطاء السابق دفع جوبيه إلى فتح نافذة للطوارئ من خلال المطالبة بتتمة. ولا تمثل الحسابات السياسية الداخلية المحرك الوحيد للموقف الفرنسي من الجزائر بل هناك الوضع القائم في ليبيا، فرفض الجزائر للتدخل العسكري في ليبيا وعدم انسياقها لدعم المتمردين أحرج فرنسا التي تريد أن تلعب دورا متقدما في السيطرة على المنطقة، وقد كانت هناك إشارات واضحة إلى أن الاتهامات الصادرة عن المجلس الانتقالي الليبي للجزائر بدعم القذافي بالسلاح والمرتزقة تقف وراءها فرنسا بطريقة أو بأخرى، وهو ما يكشف التصادم الحاصل بين الدبلوماسية الجزائرية والفرنسية في المنطقة، بين سعي الأولى إلى ضمان الأمن القومي للبلاد ونزع أسباب التواجد العسكري الأجنبي في المنطقة وبين نزوع فرنسا إلى لعب دور دولي أكثر نشاطا بما يمكنها من استعادة المواقع التي خسرتها بسبب التحولات التي شهدتها المنطقة. بقي المستوى الاقتصادي الذي يبدو أنه يسير في اتجاه مغاير تماما، فقد تحدث الوزير بن مرادي عن نتائج جيدة تحققت بفضل زيارته الأخيرة إلى باريس، وهناك اختراقات تمت في بعض الملفات الاقتصادية الهامة، وهو ما قد يوفر ضمانا إضافيا لاستقرار العلاقات بين البلدين التي ستبقى متأرجحة بين تطورات الوضع في ليبيا ومآل الإصلاحات السياسية في الجزائر.