(تابع).. تاريخي صفحات تعطرها الآهات بمرضها الكريه، وتسبها الوجعات بنكباتها ..إلا لحظة تعرفت عليك يا نسمة الروح ..يا فجأة في حياتي لم تلبث أن تركتني..نزوة كنت.. ورجفة لم تحركها من قلبي الأيام، كلما عادت إلي ذكريات نحتك أحسست بنفس الظل الذي غشيني يوما في كوري الخيول.. أحسّ أن قدماك تنسل من نفس الزمن، ونفس الرائحة الباريسية التي كنت دوما تضعينها ..أشعر برجل آخر يسكنني يعبث بروحي يحركها، يبث فيها الدم من جنس الذي كان يجري داخلي أيام كنت رجلا عظيما ..تصطاد ذاكرتي نفس اللذة التي صاحبها فعل الجنس الذي كان صديقي سليمان يسميه زنا ..لا أدرى ما أنتج هذا الفعل فرنشيسكا ..إلى اليوم لا أعلم إلاّ خلوتي بك على فراش والدك ميشال.. لحظتها كنت في الإسطبل أروض جسد خيل عربي أصيل جلبه أحد أصدقاء والدك من مدينة البيَّض.. بين الترويض والترويض مساحة انتقل فيها من اللمس باليد إلى تحريك الجسد بل حتى جسدي يصبح طرفا في الترويض .. كعادتي بجانبي خيل ..أنظر إليك تأتين ..أنتظر لأراك من هناك تحملين وردتك البيضاء، للسلام كانت . عاهدتك من أول يوم تصارحنا فيه على الحب ،لم نكن سوى حمامتا سلام لوقع أخذت فيه فضاءات الرداءة ،تتسع ..لن انسي أبدا انك أول من علمني سيرة الكلمة حين أصبحت أقرأ و أفهم ،لا زلت أتذكر نقاشات معك عن الأدب و السياسة و لا أنس سؤالك العظيم الذي دوي أرجاء صدري الهزيل الذي لم يقوي على فهم السؤال :حين قلت لي ليسبقي الذهول : من تكون قادر ؟ ماذا تقصدين بمعني هل تقرأ تاريخك ،هل تعلم من أنت ،أم أنك تردد الكلام فحسب ؟لأول مرة أتقنت وجه الوطن ..كان معك وحدك ،و مع دروسك في التاريخ الطويل لم يذهب من ذاكرتي أبدا حين جلبت لي ذات مرة صورة عبد القادر الجزائري وقلت لي : من هذا قادر؟ قلت لك : لا أعلم قلت لي : هذا هو التاريخ . ثم تأخذك نوبة طويلة ، تستنشقين الهواء بقوة تقولين كلام لا ينسي بل مازال من طينة الصنم الذي نحته : قادر الكل يراني فرنسية ،و لكنني لم أشعر أبدا بهذا النوع من الانتماء ،لأنني لن أكون لغير وطن واحد ،هو هويتي وانتمائي، لأنني أحبه ،و أنت فيه .. لم أعلم إلا بعد سنوات أنك كلامك هذا يصنع قائدا عظيما تربي في مخدعك، ونبتت وطنيته من كتفه، لم تكوني أبدا فرنسية و أنا أشهد ،و دموع حزنك تلاحقني إلى الآن ..يوم قرر والدك رحيلك عن الجزائر .. حدثتني عن كل شيء ..عن الحرية .. أنت أول من حدثني عن ماسنيسا عن يوغرطة عن الأمير عبد القادر ،يبدو أنك كنت تطالعين بكثرة كنت كغيرك من الجزائريين ..لا تعني عندهم فرنسا غير الاستعمار ..نعم لأول مرة أفهم كلمة استعمار .. رغم أني لم أعشق منكِ إلا جسدك الأبيض.. إلا أنني بدأت أتنفس بعض مبادئ الحرية، حين قرأت لي تاريخ الجزائر القديم ..لأنني لم أملك كتابا في حياتي كان جريمة كبرى لمن يملك كتابا، لا يجوز أبدا في قريتي حمل الكتاب عدا القرآن، وحتى إمام مسجدنا الوقور لم أسمعه أبدا يحدثنا عن الثورة ،كان معظم حديثة عن القدر ،وكأننا خلقنا لنستسلم لما نحن فيه .. أذكر جيدا حين اعتقل السي سليمان ..أخذت منه كل الكتب التي جلبها معه من مصر ..كان يرى فيها إمام المسجد ..أنها تشوش العقول ..و لا يستبعد أن يكون هو من أشار على الضابط بما يملكه سليمان ولكنه كان يقول للضابط : وماذا تفعل بها إن أخذتها .. نعم فرنشسكا إن هذا الوطن ،يطلب منا الآن أن نبذل له أرواحنا ودمائنا ،لأنه وحده المستقبل .. اكتملت الدائرة مع سليمان وغَدَا أخلص أصدقائي ،و أشدهم إخلاصا ،كنتِ دوما بحسك الوقاد تفهمينني و إن لم أتكلم ،لأنك كشفتني..لأنك أنت أول من صنع داخلي شخصا بدأ يقرأ ليفهم وضعه بالضبط .. كنا لحظتها تحت الشجرة المعتادة ، تحت الجسر مكاننا المفضل قلت في سكون شديد : قادر أعلم أنك تغيرت كثيرا ..لم تصبح قادر الذي لا تتجاوز أحلامه لقمة العيش بل نما داخلك رجل بحجم التحدي ..قلتِ هذه الكلمة،و أنا مستغرق في التفكير في هذا الكلام لأرد عليك بلطف : هل أحس والدك أو الضابط فيليب بشيء ؟..لا لم أسمعهما يتحدثان عن شيء ..و لكن قادر قل لسليمان يبتعد عن القرية هذه الأيام :لأنهم يحضرون لاعتقاله لألتفت إليك و عيناي تشخصان فيك بعنف .. فرنشيسكا : لماذا كل هذا منك ..؟ قادر لقد قلتها لك مرة و لن أعيدها بعد اليوم :أنا ولدت هنا ،و لن أكون غير بنت هذا الوطن ، وقلت لك مرة أن فرنسا لا تشكل لي إلا كونها استعمارا هل تقبلونني ..؟ وماذا تسمين نفسك بهذا العمل الذي تقدمينه .. لنغرق في الفضاء البعيد حيث الأمل والرؤية بدت واضحة من هناك..ياه ماض بعيد لم يعد يذكره إلا أشباح البشر مثلي ..لأن البعض اتخذه قوتا يتلوه عند كل احتفال ..لأتذكر مقولة أحدهم : أن التاريخ الحقيقي هو تاريخ الأسِرِّة ..على سريرك فرنشيسكا تعملت كل المعان السامية للوطن .. مرة حين كنا تحت الجسر، نطالع أحد الدروس في اللغة ،كنتِ فخورة جدا بي حين قلت لي : أنك أصبحت تتكلم الفرنسية بشكل جيد .. و لا تنسي كذلك أنك أصبحت تتقين العربية بشكل جذاب.. فقد أصبحت تمتعني بقصص من التاريخ الطويل ،ويسعدني منك قصص العشاق ولطالما طلبت منِّي قصص الحب العربي .. خمس سنوات كانت كفيلة أن تعيد ترتيب حياتي من شاب ساذج لا يفهم في الدنيا غير العمل، إلى إنسان بدأ يخطو مسيرته نحو الخلود .. فرنشيسكا أيتها الروح العابرة ،التي تنسلك بين أعصابي ..أتذكرين حين قلت لي ذات مرة .. قادر :هل تسمح لي بطلب ؟ استغربت السؤال فقلت لك : أريد منك أن تنحتني.. لأقاطعك وتمثالك، لقد رأيته مرات و أعجبك جدا .. لا ..ذلك كان من وحي تخيلك، ولا يظهر منه غير الوجه والصّدر وماذا تريدينني أن أنحت ؟ أريد أن تنحتني ..أن تنحتني كما أنا.. عارية .. تنفست طويلا وقلت : ماذا عارية كلية ..لا أظن أنني أستطيع ..؟ بل تقدر على ما هو أكبر من هذا .. لأول مرة تطلبين عملا كهذا قلت لك : وتمثالك فرنشيسكا الذي سميته باسمك.. فرنشيسكا :أحببته جدا ولكنه كان فقط للقاء.. فاتفقنا على أن نسميه "لقاء "أملا في أن أنحت لك تمثال أكثر إغراءا، أكثر بروزا، منذ تلك اللّحظة لم أتمالك نفسي كيف يمكنني أن أصبر أمام جسد طالما عيَّرني بجفافي ،جسد لم أتجاوز معه سوى تحريك القبلات ،هل فعلا سأشاهد هذا الجسد أمامي دون أن يعتريني أمل في القبض عليه بيدي قبل أن أباشر نحته ،علي قبل كلّ شيء أن أقيس مسافاته أن أرسم حدود تعرجاته ..فما بين الخصر والصدر مسافة تتلولب فيها انهيارات المعاني الموصلة إلى تجسيد هذه المنطقة الملتهبة شوقا و ألما .. كلما تذكرت كلامك فرنشيسكا ،إلا أخذت نفسا طويلا حتى أفقد توازني .. لم ترحم ضعفي ولا هواني ،تعرفين جيدا أنني أتحيَّن اللحظة لأقبض عليك بين ذراعي ،ها أنت تتحين لي هذه الفرصة ، ربما أحببتك بعنف غير أن للحب عندي طريق واحد : ممارسة كل الطرق الموصلة إليه..التمرّغ في خيمته و الانزواء في بهجته، تغيرت كثيرا منذ أن عرفتك لم يبق من ذلك الفتي الأحمق إلا الاسم ..الآن صرت فتى آخر.. آلاف الأطيان التي كان يمتلكها والدك ميشال، ومئات العمال الخماسة الذين يطلبون رزقهم هنا ،ربما أكون الوحيد الذي يعطيه ميشال امتياز خاص ..لا أعلم بالضبط سر هذا الأمر ربما أنت من تقفين وراء هذا الامتياز فأنا أعرف أنك كلمته عني .. لقد قصصت عليه قصتي البائسة تلك، ونضالي في إعالة أمي آخر ما بقي من رائحة اسمها العائلة، صرت تذهبين إليها وحدك ..خاصة حين أذهب في مشاغل إلى مدن بعيدة عن هذه القرية لشراء بعض الخيول..تتسللين خفيت عن كل الناس لتدخلين على أمي تآنسينها وتسامرينها بلطف لتسألي عني ..عن طفولتي، عن قصصي ..اهتمامك بي جعل أمي تخاف علي كثيرا ..لم تصارحني نعم.. ولكنني كنت أحس بكل مخاوفها.. فلقد كثرت زيارتها لسيدي الخير هذا العام حين أسألها: تذهب لتزور والدي وتتحدث إليه .. قلت لها مستغربا تحدثينه وهل يسمعك؟