(تابع).. أيتها الذات الملعونة ترجعين على هذا الكرسي إلى البيت و هناك تجدين عجوزا في السبعين ..وجهه الحزين يصنع منه تحفة من الأرشيف القديم تقدمت نحو الباب فقالت بعد أن دققت النظر في ملامحي جيدا سي قادر.. قلت :هو بلحمه و شحمه .. نظرت إلي َّ متمتما : أين هو اللحم و الشحم.. قالت العجوز ماذا قلت ؟ رددت مرة أخرى : ماذا تريدين ؟ قالت ألم تتذكرني قلت لها : اسمحلي ما عرفتكش قالت و حسرة تخرج من جوفها في شكل معاناة .. إيه يا سي قادر ..أما أنا ما نْسِتَكْش .. قلت لها في لهف: من العجوز ؟ قالت و هي ترفع رأسها إلى الأعلى الجندية لويزة يا سيدي الرايس سكت برهة و الحيرة تستبد بكلانا و قلت لها .. ألم يقل أنك مت أثناء المعركة ..مع باقي أفراد الوحدة .. لقد مت و أنا ميتة إلى الآن .. قلت لها : ادخلي البيت واحك لي القصة ..هيا لويزة .. أحسست أنها أخرجتني من حفرة عميقة ..لا قرار لها .... استراحة على أريكة في الصالون المخصص للضيوف ، كان حجابها رثا ووجها تظهر عليه المعاناة .. قالت و كل الدنيا أطبقت عليها ..للذاكرة شهوة مجهدة حينما نريد استعادتها.. بعد أن تركناك هناك في المكان ..عند تلك الصخرة تنزف و رجلاك مقطوعتان ..لقد قمت بأكثر من الواجب يا سيدي قادر ..لم نكن نتصور أننا سندخل معهم في معركة ..فمهتنا كما تعلم لم تكن أبدا الاشتباك مع العدو بل كنا مكلفين بعملين إيصال الأوراق إلى الحدود الشرقية و إدخال السلاح أو تأمين الطريق الشرقي.. دخلنا مع وحدة الجو الرابعة الفرنسية في معركة شرسة ..يبدو أنهم تلقوا معلومات تفيد أننا نحمل أوراقا مهمة نريدها أن تعبر الحدود ..قطعوا علينا الطريق هناك في جبل بوطالب الشامخ ..كنا عشرة جنود أو أكثر بقليل .. حاصرونا من كل جانب ..لم أستطع الاحتفاظ بتلك الأوراق أحرقتها مخافة أن تقع بين أيديهم .. كنت عظيما يا سي قادر .. رغم أنك مكثت سنوات طويلة قبل الثورة تعد الخلايا إلا أنك كنت جنديا بسيطا بيننا لم نشعر بأنك قائد ..حاربناهم بشرف و بدأ الرفاق يسقط الواحد تلوى الآخر ..و لن أنس أبدا حين انفجرت تلك القنبلة تحت قدميك ..تمزقت رجلاك إربا على الرغم من ذلك لم تستسلم ..أعطيتني الأوراق و قلت لي : لويزة اذهبي بالأوراق إلى الحدود الشرقية ..و إن استحال عليك الأمر فاحرقيها ..لقد أذهلتني مواقفك و أنا أراك تحفر بيديك في التراب من أجل أن تدفن رجلاك ..تساءلت من أين لك هذه القوة ..هربت و بقي الإخوة يقاتلون بقوة .. و ها أنا الآن أمامك أيها الرفيق ..معطوبة مثلك ..بعد أن منحنا أعمارنا لم يمنحونا حتى لقمة العيش ..نظرت إليها و نظرت إلي .. صارت لويزة أحد أعضاء منزلنا ..أحبتها ابنة ولدي باية ..كانت تناديها عمتي لويزة و صرت أُسَلِّي نفسي بوجودها ..نستعيد الأيام الجميلة .. ألو من ... حازم ..هل السيد قادر في البيت .. نعم .. قولي له أنني أريد أن أكلمه هل يعرفك ..؟ قولي له ، حازم الفلسطيني وهو سيفهم .. يا باية من على الهاتف ؟ أحدهم يقول أن اسمه حازم الفلسطيني .. أغرس رأسي في الأرض قليلا ،حازم الفلسطيني ..لقد مر وقت طويل على رحيله .. ألو ..السلام عليكم . السلام عليك يا حاج قادر كيف الحال ؟ بل كيف حالك أنت حازم ؟ حازم من أين تتكلم ؟ أنا في الجزائر ما الذي قذف بك علينا هذه الأيام ؟. لهذا السبب أنا هنا .. أريد مقابلتك ..أين أنت ؟ حيث أنا ؟ لقد رحلت عن العاصمة منذ مدة ،قأنا في مدينة الصبا ، سطيف ..خذ العنوان طيب شكرا أنا أنتظرك بفارغ الصبر ... شكرا . ها هو القدر سيجمعني بك مرة أخرى حازم ..بعد كل هذه السنوات يرن هاتفك فجأة ، تخبرني أنك هنا في الجزائر لا أدرى لماذا رماك القدر فجأة ؟ فقد عرفتك في السبعينينات طالبا في معهد الإعلام ، هل تراك أصبحت مثلي.. نحت عمره المتبقي لوطنه، هل تراك أصبحت ربع إنسان ،هكذا هي طينة الرجال الذين يهبون أعمارهم فجأة و في لحظة عنف ،فقط ليصبحوا على شاكلة الإنسان .. لا يتذكرنا الناس إلا للاستشهاد عن حوادث من التاريخ على الرغم من أنهم ما زالوا في الدنيا ،لهم قلوب تنبض وعقولا تفكر..ها أنت أحد قتلاي في هذه الرواية..مارستك بالنحت فقط لأمزجك في تاريخي لا يمكن لمثلي أن ينسى ولائمه ..فأنت من جنس تجربتي فقد منحت فلسطين كل قصائدك لتموت قصائد العشق على عتبات قضيتك ..كل الناس تذكرك بمرثيتك الجميلة للقدس ولكن لا أحد يذكر قصيدة النفس المعذبة .. لماذا يا ترى الآن؟..وفي هذا الوقت تفتح كل الجراح التي عزمت أن أصنفها ضمن الأرشيف ،أتذكر أيها الفلسطيني صداقتنا بل انصهارنا في قضية فلسطين وذلك المعرض الذي أعجبك كثيرا وتلك المنحوتة التي وسمتها :"حجر" لقد أعجبتك كثيرا وفرحت بها فرحا عارما .. قلت لي لحظتها : ياه... قادر لقد لخصت كل تجربة الشعب الفلسطيني ،هذه ليست ملكك ،ليتني أهديتك إياها في تلك الفترة ،فقد كنت أنانيا حين قلت لك ،.. منحوتاتي لي .. ما تبقي لي من الدنيا ،أصل بها خيباتي ...ها أنت أحد قتلاي في هذه المنحوتة ،و لكن أمارسك بالكتابة عوض النحت ، مارستك بالنحت لأمزجك بتاريخي ، فالكتابة صعبة مثل النحت ،حين تتوجه باقي الحروف لأن ترسم معنى جديدا ..و تبقي على سطوحها بعض التشوهات التي تمسخ المعني.. الكتابة ليست فقط نحتا بل هي عذاب ..هي الوجه الآخر الذي به يصبح للكلام معني .. حازم.. أنت الهامش الذي يظهر كالنتوءات على منحوتاتي أنت ما أسميه "الزائدة " على الرغم من أنك استهلكت كل تجاربي ، لم يكفك أن يغادركم الوطن ليغادرك الأحبة ..وحدها القصيدة من يبقى وطنك ومنفاك ،أتذكر جيدا تلك القصيدة التي وسمتها " قبلات لوجه آخر" : قبل الصباح قبل أن تشرق الشمس الأفقية قبل التقاطي أشلاء الحرية أرسم فوق خدي قبلا وردية فالكل يرى اسمى على وجنتيها الكل يقبل حلمي النزارية وكان حبي فجرا ظهرا وأمسي بعد العشاء لحني الزمردية لا أدرى لماذا أشعر أن هذه القصيدة قد لخصتني، كشفتني و عرتني من تجربتي التي لم تجد إلا الشفاه لنرسم عليها عذابنا.. شوقنا.. إلا بالجسد..حينها لم أذكر فرنشيسكا إلا بالجسد لأنني لم أكف بعد على اجترارها فأكلاتي لها كانت تبرز من حين لآخر فأحس بشبع رهيب لا زال يعاودني كلما أذكر هذه القصيدة .. أنت القادم إلينا من رام الله من مدينة المعاناة ولكن أن يلفظك القدر في هذا الأيام فلذلك حكمت لا أعرفها.. حازم أعلم مدي حبك لهذا الوطن الذي رسمته في أخر مقالاتك بأنه مكسور ،فلطالما قلت لي أن هذا الوطن يشكل لي إغراءا من نوع آخر ،إغراء من جنس الهامات التي رفعت راية الاستقلال ..تحب هذا الوطن لأنه أكثر القمم شهامة و كبرياء ،وهذا ما تبحث عنه دوما مكانا يفوح عظمة فبالرغم مما أصابنا إلا أننا ما زلنا على عهدنا به ..هو آخر الزاد لنا من الثورة ، هو ثورتنا الثمينة.. تقبل حازم على تاريخ خصوماتك و كأنك تحكيني تلخصني، لم أنس تلك القصيدة التي رسمت فيها وجع الأحبة حين يصبح الأصدقاء يتبارون على الكراسي بدل أن يصبح همهم الوطن .. لقد كانت استقالتك من منظمة التحرير مدهشة للبعض ولكنها لم تكن بالنسبة لي إلا حقيقة حازم الذي عرفته بني وطنا من الورق ، وطنا يشبه اليوتوبيا الضائعة، وطنا لخصه ادوارد سعيد في كتابه خارج المكان ، اللغة وحدها إلى وطن الأمكنة الذي نرتحل إليه ونحن مطمئنون أنه لن يخذلنا، نضاجعه بالدموع مرة و بالفرحة مرة و أكثر المرات نسند ظهورنا إليه فلا يجزع وحين يصيبنا منه إدبار ننصرف عنه لنكتب قصيدة أو رواية و كأننا نطلق الوطن بمجرد فضحه على ورق ...يتبع