بقلم: علي بختاوي/ الجزائر توقفت . أشرت إلى الأتوبيس الذي كان يمشي بتثاقل كي يقف في المكان الذي عهدته من زمان . حين لم يهتم سائقه لأمري تفلتُ على الأرض . شتمته . لعنته . ولو كنّا وجها لوجه لكان الحال على ما ليس عليه الآن . قلت في نفسي : ” الزمن تغيّر . وحشا أصبح . والأبرياء من أمثالي لا وجود لهم . حتى السماء أرى لونها يميل إلى السواد و مرّات إلى لون رصاصي . غامق . داكن . والأرض جافة يابسة . شقوق أصاب أديمها . موّال الأمس مازال يدور في رأسي : ” الفوضى ترتيب المجنون ” . رباه . إلى أين بي . ! ؟ . أشعر أن ليس كل من يطيل التحديق في القمر عاشقا أو صائما . أو من يحمل أمه أو أباه بارّا بوالديه . أو من يركع لله مؤمنا . أومن يهدي وردة لعشيقته عاشقا هيمانا. ماذا لو قطعت مسافتي – التي كان من الممكن أن يختصرها الأتوبيس في ساعات – على رجلي ركضا أو مشيا ؟ . هه ! . ماذا لو فعلت ذلك . ؟ . أنا لا أسمع سوى إلى صوت واحد آت من أعماقي . خديجة أمي لا تعرف أن وراء صمت الأفعى ضحايا ما . لا تعرف أن الملح إذا فسد فلا شيء يملحه . رفعت عيني . خفضتهما . رميت نظرة إلى كراسي المحطة كي أجلس . آخذ نفَسًا . أرتاح . ألا يحق لي أن أرتاح . ؟. زحام . الجنة لمن يجد كرسيا . الوقت يمر . واقفا ألهو بسيجارتي . الرحلة طويلة . أعلم ذلك جيدا . قبل أن أنطلق من بين أحضان أمي إلى هنا . كنت حشوت معدتي ببعض التمرات اليابسة مع قطعة خبز وكأس حليب حامض . اللحم لم يزر مطبخنا منذ أربعة أشهر . وحدها طنجرة المرق المحتوية على البصل وحبّة بطاطا كانت أمي استلفتها من جارتنا أم هانيء . وقبل انقضاء الأسبوع سوف تردها لها مع رفع دعوات لها إلى الله . أبي مات منذ سنتين . تركني في الثامنة عشر من عمري . مع بنتين يصغرنني بسنوات . كان لزاما عليّ أن أنقطع عن الدراسة مع العلم أني كنت نجيبا والأوّل على مستوى قسمي . هكذا هي الحياة تجرّدنا حتى من أحلامنا . يوم رميت محفظتي فوق برميل الماء الكبير المحاذي للطاولة المهترئة التي تحمل على فناجين بلا مقابض و ملاعق وبعض الكؤوس البلاستيكية وصحون أحيانا يقيم الذباب فيها ويمارس شهوته ووجوده في الحياة كنت أعرف أن الدنيا الكلبة رمتني من حيث لم أحتسب لها . بكت أمي لحظتها . احتضنتني . شعرت بدموعها تغسل وجهي . وهمهمة تهزّ شفتيها . لا أدري بماذا كانت تُهَمْهِم . لكني شعرت أني أتعس مخلوق على الأرض . حشرة . مجرد حشرة كنت . لا تستطيع الوقوف في وجه الحياة بشراسة . وماذا سوف تعمل يا ولدي ؟ أي شيء . أي شيء يا أمي كيف أي شيء هذه يا المختار ؟ وحدها الدموع كانت تجيب على أسئلة جارحة . مالحة . حّارة. قلقة . بعد قليل . تستيقظ عيني . تذهب في بكاء حّار . بعدها تنقر الذاكرة على زر الحياة هنا . تبدأ في الفوران . في النبش . الحفر . مكاشفة الأشياء عن بُعد وقُرب . الحصول على البيرة صعب . النبيذ لا تتحمّله معدتي . التدخين بشراهة أحرق أعصابي . هدّ صحّتي . فكرّت أن أنأى عنه . أبعد عنه أو يبعد عني. لكنها الحياة. من يومها تبدّلت نظرتي إليها . وضعتها مع إبليس في خانة واحدة . هنا لاشيء يؤنس النفس . موت بطيء . وجوه ألفت البؤس والفقر والعري والصدأ وحموضة الهواء الذي تأتي به الريح من جهات عديدة من البلاد . الحي الذي أسكنه في الصيف مغبّرا وفي الشتاء موحلا. في العيد يلبس الأولاد ثيابهم الجديدة نصف نهار ثم ينهرهم الآباء على نزعها .. في هذا المكان تظلم الدنيا لكن ببطء . مجرد أفعى . تتلوّى لتهجم دفعة واحدة . الآن . في هذا المضرب . في هذه الرحبة . في هذه المحطة التي لم أجد ولا كرسيا يمنحني الراحة لدقائق . تنهدّت . أقمت وقتا داخل ذاكرتي التي نزّت بما جرى لي قبل أيام هنا . لم و لن أغفر للسعيد بائع المجوهرات . لحظة رهنت سلسلة أمي خديجة الذهبية حتى يستلفني قليلا من المال أوعدني بمنصب شغل . قال لي يجب أن نتفاهم ونتعاهد منذ البداية . المسؤول الذي سيدخلك إلى شركة صنع الأحذية . يده منقسمة إلى اثنين . يعني هو كذلك يجب أن يمنح ملح اليد إلى المسؤول الذي يليه . لا أريد أن أشرح لك أكثر . أنت تفهم في مثل هذه الأمور . اتفقت معه . ” المهم عمل أسترزق منه” . هكذا عاهدته و ودّعته . بعد انتظار أكثر من شهرين . لا عمل ولا سلسلة التي وعدت أن يذهب نصف ثمنها إلى المسؤول . يومها تلفتّ يمينا . يسارا . قدّامي . خلفي . قابلني الحَمَّام . ”أعمل كيّاسا” . قلت في قلبي . رُفض طلبي . لم يكن لدي ما أبتاعه من نبيذ . مجنونا صرت . خرجت عن عقلي . قلبي تتزاحم عليه ديدان الغم والتأسف . لم أدر أي طريق أدى بي إلى هنا . في هذه المحطة . عن بعد أمتار لمحت جريدة مرمية . تلقفتها . كانت ملطّخة بوجبة التعساء ” الكرانتيكا” . مسحت عنها ما لصق بها من خبز مزيّت . وفتات الكرانتيكا . شدّ نظري عنوان كبير تحته جثة شخص مفحّمة . ”ولاية تبسة حزينة لانتحار شاب بعدما دهن جلده بالبنزين ورمى عود ثقاب على نفسه” . بان لي الحيّ بغباره ووحله . حبّة البطاطا التي استلفتها أمي من أم هانيء . التمرات اليابسة وكأس الحليب . سائق الأتوبيس . صاحب المجوهرات . المسؤول والذي يليه ووو.. أدخلت يدي في جيبي . لمست بعض الدنانير . كانت محطة البنزين غير بعيدة . مشية عشر دقائق . وسوست : الفوضى ترتيب المجنون . و.. ! ويجب أن تخرج صورتي في الصفحة الأولى وبالبند العريض . ليس وحدي بل مع سائق الحافلة التي ستقف هنا بعد قليل. فقط كي يشعر مثل ما سوف أشعر به ...