بقلم: سوزان إبراهيم/ سوريا باردةً تهب الريحُ في شوارع دمشق. مازالت الأرصفة مغطاةً ببقايا ثلوج. قبل زمن بعيد, تأقلم جسدي مع مزاج الفصول، فاستقرّ َزئبق ميزان حرارته عند نقطة عدم الإحساس. أستطيعُ معرفة تفاصيل الأرض التي أدبُّ فوقها, إذ يتدلى نظري فوق خطواتي الوئيدة, بينما تلعق أطراف بنطالي مياهاً متجلدة. حين انتقدوا طريقتي في المشي, قلتُ: هكذا أستكشف موضع قدمي, عسى أتحاشى حفرةً حُفرتْ!! إنه سلوك الحكماء! * * * قبل أكثر من عشرين عاماً، وقفتُ خلف زجاج النافذة المطلة على الشارع الرئيسي, كان ثلاثاءً أبيض, فالثلج يغطي كل شيء. توقفت سيارة رسمية تنتظرني. بعد عشر دقائق من بدء ذلك الاجتماع, اقتربت إحدى رفيقاتِنا, همستْ وبعضُ حزنٍ يُرعِش صوتَها: - لماذا أتيتَ اليوم؟ ألم يكن لديك ما يجعلك تتخلف عن هذا الاجتماع؟ متأخراً أدركتُ قصدها! في ذلك الصباح نويتُ الصعود إلى قمة قاسيون, لأرى دمشق مكللة كعروس مشتهاة, لكنني انحدرتُ مع ضابطٍ إلى قبو معتم في أحد فروع الأمن. في المؤسسة التي عملت فيها معتلياً كرسيّ الإدارة, عيونٌ كثيرةٌ كانت تحوم حوله, وهكذا وجد المحقق ارتباطاً وثيقاً بيني وبين عناصر تنتمي لتنظيمٍ معادٍ للبلاد. متنقلاً بين سجن وآخر مضى من العمر خمسة عشر عاماً. لم تحتفظْ عيناي في أرشيفهما من دمشق ذلك الصباح, إلا بياضَها! مشهدٌ يتيمٌ أورثني كرهاً للثلج, فأعلنتُ عليه فراقاً أبدياً, حتى جاء صوتها. * * * لا أدرك بالتحديد ما الذي انقلب في كياني, حين ترقرقَ – على غير انتظارٍ – صوتُها عبر الهاتف: تذكرتكَ هذا الصباح, فالثلج يغطي قمم الأشجار, وأفاريز النوافذ, وأرض الحديقة التي أراها أمامي الآن. قلتُ: - وما القاسم المشترك بيننا.. أنا والثلج؟ لا أظنكِ تقصدين عواطفي؟ جاءني الرد على غير توقعٍ: بل قلبك! * * * في زاوية دافئة من المقهى المطل على حديقةٍ بيضاءَ جلسنا. أطلْتُ النظرَ إلى وردة الدفء المتفتحةِ على وجهها بفعل حرارة الموقد القريب, تأملتُ غوصَ عينيها في الأبيض الراقد على أكتاف المنازل, وملاحقتَها لزوجيْ يمامٍ يتغازلان على حافة شباك. - كم أكرهك أيتها المرأة ! أيقظتْها كلماتي, ابتسمتْ, قالت عيناها بجرأة: أيها الكاذب! سألتُها متوتراً: - لماذا اليوم؟ لماذا هذا الصباح؟ منذ أسابيعَ لم تتصلي؟ إنّه ثلاثاءٌ آخرُ! ثلجٌ آخرُ! وبين ثلجٍ وثلج, وبين صبحٍ وصبح يخترقني صوتكِ ,ليقلب مواقعَ الأشياء!! بدتْ غير مدركةٍ لما أعني, تعاطفتْ مع حزنٍ مقيمٍ في تقاطيعِ وجهي, مدّتْ كفَّها الدافئةَ, ربتتْ على يدي, قالت: - ما بك؟ أشعر أن هناكَ ما تودّ قوله, هل أزعجك اتصالي؟ - أيتها المجنونة كيف تقولين ذلك! يا له من اتصال أعادني إلى ماضٍ أوصدتُ بابه, فتجاهلتُ أحداثََه, أحزانَه, كلَّ تواريخِه, كلَّ فصوله! وحاولتُ العيش ثانية! - ألم تكن تحبُّ الثلج؟! - هذه قصة طويلة يا صديقتي.. قد أرويها لك يوماً.. الآن أحتاج أن أراك.. أن أحادثك, أن أتأملك.. لأتأكدَ بأنني هنا.. ولست هناك! * * * مساءً بدتْ شوارعُ دمشق شبهَ خاويةٍ, لكأنَّ ذاك المساءَ البعيدَ يتكرر الآن, وهأنا أستعيد أحداثَه المحفورةَ عميقاًً كوشمٍ في الروح: في الثامنة من مساءٍ شتائي رائقٍ, توقفتْ سيارةُ أحد فروع الأمن في زقاقٍ خالٍ, نزلتُ بصمت, حاولتُ استجلاءَ ما حولي, فثمة غبشٌ في الرؤية. يومها خِلتُ أن المسافةَ بين باب السجن وباب السيارة حيث نزلتُ لن تنتهي! أضواءُ الشوارع تتلألأ. ملأتُ رئتيَّ بنسيم باردٍ منعش, مشيتُ بضعَ خطوات غيرَ مصدّق. بعد كل ذلك الغياب الاضطراري, كان من الصعب عليّ مطابقةِ صورِ الذاكرةِ على أشياءِ الواقع! شعرتُ بخدرٍ في ساقيّ, فأوقفتُ سيارةَ أجرةٍ, وتوجهتُ إلى بيتٍ تركتُهُ وحيداً خمسة عشر عاماً. * * * أهوَ بردُ كانون؟ لكنني منذ أمدٍ فقدتُ الإحساسَ بتغيراتِ الطقس! لعلّه دخانُ النرجيلة إذاً ! ذاتَ يومٍ كنتُ رجلاً قوي البنية, لكن رطوبةَ السجن عششتْ في نقي العظام, وأورثتني آلاماً في المفاصل, ونوباتِ ربوٍ لئيمةً كادتْ تعجِّلُ في إطلاقِ روحي. على مقعدٍ قريبٍ من ضفة بردى المسوّر والمقيّد, وضعتُ جريدةً ثم جلست. استفزني وجه رجل عجوزٍ يسبّج بحمدِ ربّه على حافة المقعد. دون تصريحٍ مسبقٍ بالزيارة, تجسدتْ فيهِ صورةُ أبي حيةً ! حزينٌ وجهُهُ كآخر مرةٍ رأيتُهُ فيها, عتبٌ في عينيه يلفحُ قلبي. ينتفضُ قلبي وصوتُ مديرِ السجن القادم من عتمة ليل كئيبٍ يرنُّ وهو يخبرني: ليلة أمس توفي والدك.. ليرحمَهُ الله.. يومها لم أبكِ, لكن نوبةَ ربوٍ انقضّتْ على رئتيّ المتعبتين لأول مرة, فهل أثأرُ الآنَ لذكراهُ من دمعٍ طالما عاندني!