عندما طلب نبي الله «يوسف» عليه السلام من الملك أن يجعله على خزائن الأرض قدم مؤهلاته الصالحة للوظيفة، قال تعالى "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم"، وقال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية "أي حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شئ في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع والصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية وإنما رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاية والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه، فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض وولاها إياه"، فهذه الوظيفة تحتاج إلى الحفيظ الذي يحفظ الغذاء من التبديد ومن التسيب والمحسوبية والوقوع في يد المحتكرين، وهو قادر على القيام بهذه الوظيفة في أمانة عالية ويشرف عليها بنفسه لأخلاقه وإخلاصه، وهو عليم بكيفية حفظ المحاصيل في سنابلها وكيفية وضعها في الحصن، وعليم بما يفسدها ويصلحها وعليم بأعراض الإصابة بالكائنات الحية الدقيقة والسوس وغير ذلك من المفسدات، وهذه الوظيفة تحتاج إلى الأخلاق والعلم، فصاحب الخلق من دون علم لا يصلح، وصاحب العلم بلا خلق لا يصلح، وفوق كل ذلك فقد كان على علاقة طيبة مع الملك ووضع خبرته تحت تصرفه وقال له الملك "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين"، أي متمكن أمين على الأسرار، أي أنه محل ثقة وفي الوقت نفسه من أهل الخبرة، وأهل الثقة من دون خبرة وعلم يفسد أكثر مما يصلح، وأهل الخبرة من دون الأمانة والثقة أيضا لا يصلح، إذا علينا البحث عن أهل الخبرة الثقة، وأهل الثقة الخبير، وهذا الصنف من الناس متوفر، ولكن البعض منهم يعزف عن تقديم نفسه وهذا خطأ، فقد قدم «يوسف» نفسه للملك وكسب ثقته وبيّن له خبرته. انتخاب النبي «موسى» لأمانة الزواج عندما توسّمت ابنة الرجل الصالح في مدين بالنبي «موسى» عليه السلام خيرا، عرضت على والدها مؤهلاته الصالحة للعمل في الرعي والحراسة والسقي، والصالحة للعيش معها ومع أختها وأبيها في أمان فقالت "قَالَت إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ"، فالأمين غير القوي لا يستطيع القيام بمهام هذه الوظيفة المحتاجة إلى القوي، والقوي غير الأمين لا يصلح للعيش وسط هذه الأسرة المؤمنة الملتزمة بدينها، وهذا معيار آخر يؤكد أهمية أهل الخبرة والمؤهلات وأهل الأخلاق والثقة، وقد اختارت السيدة «خديجة» رضي الله عنها الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم لأمانته وصدقه ومقدرته على الحفاظ عليها وعلى أموالها وتجارتها، فهو أهل ثقة لديها، وهو أهل خبرة سبق أن اختبرته عندما ذهب للتجارة في بضاعتها، وهو أمين صاحب حسب ونسب، فعلينا إن أردنا إصلاحا لشؤون حياتنا أن نختار أهل الخبرة صاحب الخلق، وأهل الثقة صاحب الخبرة، وفي قصة «ذي القرنين» بيان آخر لقيمة الخلق إذا صاحبه علم ودراية، قال تعالى "قال ما مكني فيه ربي خير"، وقال أهل العلم "فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ولا رغبة في الدنيا ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبهم في بناء السد، لما فيه من المصلحة وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم «ما مكني فيه ربي خير»، أي مما تبذلون لي وتعطونني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم «اجعل بينكم وبينهم ردما»، أي مانعا من عبورهم عليكم"، وهم طلبوا منه سدا، وهو بخبرته جعل لهم ردما، والردم أقوى وأقدر من السد على مجابهة الهزات الأرضية وعوامل التعرية، وجعل الردم من الحديد والطين المحروق، ثم بعد ذلك غطّاه بطبقة من النحاس ليحول دون تآكل الحديد بالعوامل الجوية، فهذا رجل عليم خبير أمين، قال تعالى "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا. فَأَتْبَعَ سَبَبا"، فهو متبع للأسباب الإلهية في الخلق ومتبع للعلم النافع الذي علمه الله تعالى. التمكين العلمي الأخلاقي أساس الإصلاح إذا أردنا إصلاحا لأحوالنا فعلينا بالتمكين العلمي الأخلاقي لأبنائنا وبناء جسور الثقة والمحبة بين العلماء وأهل الخبرة والمتنفذين وأهل السياسة، لنكون كما قال الملك ل«يوسف» عليه السلام "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين"، وهذه دعوة قرآنية لمد جسور الثقة والإخلاص بين الخبراء والسياسيين، حتى تستقر الأمور وتقل الفتن ويتفرغ كل لعمله وإتقانه في ثقة وأمانة، إذاً الحل الأمثل لمشاكلنا التربوية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية يكمن في اختيار الحفيظ العليم والقوي الأمين، إذا فعلنا ذلك وطبقناه في حياتنا فسيقل الإهمال في الأعمال والهدر في الأموال والتخبط في المشاريع والفساد في التنفيذ والتسيب في العمل، وأتقن كل منا عمله ولم يتكلم إلا فيما يفهم، ولم يعمل إلا ما يتقن، لحظتها سنحقق المعجزة التربوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية التي حققها «عمر بن عبد العزيز» وجده الفاروق رضي الله عنهما، عندما اختار البنت الأمينة ليزوجها لعاصم ابنه، جد «عمر بن عبد العزيز»، حيث اختار له الزوجة الصالحة الأمينة التي أبت أن تغش اللبن، وعندما قالت لها أمها إن «عمر» لا يرى، قالت البنت "ولكن رب عمر يرى".