للحظة تصور الأميركيون والأوروبيون أنهم بصدد التوصل لاتفاق ينزع فتيل الأزمة في مصر ويبعد عنها شبح الحرب الأهلية، غير أن الأمل تبدد فجأة ببيان أصدرته الحكومة المؤقتة يعلن نهاية المفاوضات ويحمل الإخوان المسلمين مسؤولية الفشل ويفتح الباب أمام نزيف الدم في شوارع القاهرة ويصيب واشنطن بخيبة أمل كبيرة. المفاوضات المكوكية التي أجراها مبعوثان أميركيان هما السناتور جون ماكين والسناتور ليندسي غراهام بتكليف من الرئيس باراك أوباما ومساعد وزير الخارجية وليام بيرنز، أوشكت على النجاح كما تقول صحيفة نيويورك تايمز حتى أن المبعوث الأوروبي بيرناردينو ليون أبلغ بالفعل الإخوان المسلمين بأن ثمة "مؤشرات" من القيادة في مصر على أنه سيتم في غضون ساعات إطلاق سراح اثنين من قيادات المعارضة هما رئيس مجلس الشعب المنحل سعد الكتاتني ورئيس حزب الوسط أبو العلا ماضي مقابل أن يوافق الإسلاميون على تقليص حجم اعتصامي رابعة العدوية والنهضة بواقع النصف وهو ما وافق عليه الإسلاميون بالفعل، كما تقول الصحيفة. صعوبة المفاوضات بين المبعوثين الأميركيين ماكين وغراهام تبدو جلية في لقاءاتهما مع كبار المسؤولين المصريين، وتنقل الصحيفة عن الأخير القول إن رئيس الحكومة المؤقتة حازم الببلاوي كان بمثابة "كارثة" في حديثه إليهما. رئيس الحكومة المؤقتة كان بمثابة كارثة السناتور ليندسي غراهام وقال غراهام "لقد استمر (الببلاوي) في إلقاء ما بدا وكأنها محاضرة على مسامعي قائلا: لا تستطيع التفاوض مع هؤلاء الناس (الإسلاميين)، يجب عليهم أن يبتعدوا عن الشوارع ويحترموا حكم القانون .. فرددت عليه قائلا ، والحديث لغراهام، سيدي رئيس الوزراء، إنه من الصعب عليك أن تحاضر أي شخص حول حكم القانون. كم عدد الأصوات التي حصلت عليها؟ .. إنك لم تأت عبر انتخابات". وأضاف غراهام أن لقاءه وماكين بوزير الدفاع الذي أطاح مرسي الفريق أول عبد الفتاح السيسي كان مختلفا فقد بدا الأخير "غير مصاب بجنون السلطة إلى حد ما". وأشار إلى أنه في حديثه إلى السيسي قال له "هل تتفق معي في أن مرسي إذا خاض الانتخابات في أي وقت قريب سيخسر؟ .. فقال السيسي، بالتأكيد، فرددت عليه قائلا: إذن ما تفعله الآن يجعل منه شهيدا .. إن الأمر لم يصبح الآن عن مدى السوء الذي حكموا به البلد ولا عن تقليصهم للمؤسسات الديموقراطية.. الأمر الآن أصبح عنك أنت". لكن بحسب الصحيفة، فقد بات المبعوثان على قناعة بنهاية ذلك اليوم (6 أغسطس/آب) بأن العنف يبدو جليا في الأفق، مشيرة إلى أنه بعد ذلك بأسبوع تقريبا قامت القوات المصرية بفض اعتصامين لأنصار مرسي في هجوم أسفر عن مقتل ألف شخص على الأقل. جهود وتهديدات ومع هذا الهجوم بات جليا لواشنطن أن جميع جهودها، والتهديدات المبطنة التي أطلقتها، والمبعوثين الذين زاروا مصر، والاتصالات الهاتفية التي أجراها وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل مع نظيره المصري والتي بلغ عددها 17 اتصالا، قد فشلت في منع أسوأ مذبحة في تاريخ مصر الحديث، كما تقول نيويورك تايمز. وأضافت أن هيغل ضغط على السيسي كي يعود إلى الحكم المدني غير أن الأخير اشتكى في المقابل من أن إدارة أوباما لم تقدر بشكل كامل أن الإسلاميين شكلوا تهديدا لمصر وجيشها، وطلب من هيغل أن ينقل لأوباما صورة هذا الخطر، كما قال مسؤولون أميركيون للصحيفة. [وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل خلال وضعه إكليلا من الزهور على قبر الجندي المجهول في القاهرة] وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل خلال وضعه إكليلا من الزهور على قبر الجندي المجهول في القاهرة وذكر أحد الضباط الأميركيين لنيويورك تايمز أن "النقاط التي ارتكز عليها المصريون في حديثهم هي أن الإخوان المسلمين مجرد مجموعة من الإرهابيين". وبحسب الصحيفة، لم يشعر الجنرالات في القاهرة بحرج في تجاهلهم للأميركيين، سواء في بداية عملية الوساطة حين طلب الأميركيون إطلاق سراح الكتاتني وماضي أو بعدها حين أصدرت الحكومة الانتقالية البيان الذي أعلن فشل المفاوضات (رغم استمرار الوساطات الأميركية والأوروبية)، اقتناعا من هؤلاء الجنرالات بأنهم لن يدفعوا ثمنا باهظا لذلك، وهي قناعة ترسخت، كما تقول الصحيفة، عندما قام الرئيس أوباما الأسبوع الماضي بإلغاء مناورات عسكرية مشتركة مع مصرمن دون إلغاء المساعدات السنوية التي تبلغ 1.5 مليار دولار". ورغم تحذيرات أوباما من مغبة الانقلاب على رئيس منتخب ديموقراطيا في ضوء القانون الأميركي الذي يمنع تقديم مساعدات لحكومة انقلاب، فقد رأى الصقور في الجيش وأجهزة الاستخبارات المصرية أن تجربة الإخوان المسلمين في السلطة جعلتهم أكثر انكشافا وضعفا عن أي وقت في تاريخ عملهم السري الذي امتد لثمانية عقود، كما تقول الصحيفة. ضغوط متباينة وأضافت نيويورك تايمز أن أوباما تعرض لضغوط من الإسرائيليين والسعوديين وحلفاء عرب آخرين كي يبقى متساهلا مع الجنرالات في مصر لمصلحة الإطاحة بما يعتبرونه تهديدا إسلاميا كبيرا، لكن على الجانب الآخر واجه أوباما خليطا غير معتاد من المحافظين والليبراليين في أميركا الذين حثوه على الوقوف بشكل أكثر حزما ضد هذا النوع من الحكم (العسكري) الذي ظل طابعا مميزا للحياة في مصر لعقود. وأشارت إلى أن واشنطن استعانت بقطر والإمارات في محاولة لإقناع طرفي الأزمة في مصر بالحل، لكن رغم أن حديث القطريين والإماراتيين أمام الأميركيين كان عن المصالحة فإن دبلوماسيين غربيين يعتقدون أن الإماراتيين على وجه التحديد كانوا يقومون خلف الأبواب المغلقة بحث قوات الأمن المصرية على تشديد قبضتها ومهاجمة الإسلاميين. ليس هذا فقط، كما تقول الصحيفة، بل إن الإسرائيليين، الذين ربطتهم صلات وثيقة بالفريق أول السيسي بحكم منصبه السابق كرئيس للاستخبارات العسكرية، كانوا يؤيدون الإطاحة بمرسي وأجروا اتصالات مكثفة معه، كما يقول دبلوماسيون غربيون، وطلبوا منه عدم القلق من التهديدات الأميركية بقطع المعونات المقدمة لمصر. السيسي لم يثق أبدا في البرادعي غير أن مجموعة صغيرة من الضباط القريبين من وزير الدفاع رأوا فرصة لتخليص مصر نهائيا من الإخوان المسلمين نيويورك تايمز وخلصت نيويورك تايمز إلى أن العملية الانتقالية المضطربة في مصر ظلت "صداعا" في رأس الرئيس أوباما لأكثر من عامين، فقد تعرض لاتهامات بتأييد الرئيس الأسبق حسني مبارك لفترة طويلة بعد اندلاع التظاهرات ضده في عام 2011، ثم التخلي عنه بعد ذلك، ثم "المقامرة" على مرسي الذي وجده أوباما شريكا مفيدا وبراغماتيا في التعاطي مع قضايا مثل العنف الذي اندلع في غزة (وتم وضع حد له بوساطة مصرية)، قبل أن تصبح لدى الرئيس الأميركي قناعة بأن مرسي لم يتصرف على نحو غير إقصائي كي يحقق استقرار مصر. وأكدت الصحيفة أن وزير الخارجية جون كيري حث مرسي عندما التقاه في القاهرة على التواصل مع المعارضة وإلا فإنه يهيئ الأرضية، كما قال كيري، لانتفاضة أخرى ستكون ضده هو في هذه المرة، غير أن تهديد كيري دفع مرسي للتصلب كما قال مساعدوه. السيسي لم يثق في البرادعي وبعد الإطاحة بمرسي لم يبتعد كيري عن المشهد المصري فقد كان له دور في إثناء نائب الرئيس المؤقت للعلاقات الدولية محمد البرادعي عن الاستقالة من منصبه احتجاجا على قيام قوات الأمن في 26 يوليو/تموز بقتل أكثر من 80 شخصا في مصادمات باتت تعرف باسم "مذبحة المنصة"، نسبة إلى النصب التذكاري القريب من مقر اعتصام رابعة العدوية. فبعد هذه الأحداث أصر البرادعي على الاستقالة غير أن كيري أقنعه بالبقاء بدعوى أنه الصوت المنضبط الوحيد في الحكومة، كما تقول الصحيفة، لكن بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة لم يصغ البرادعي لأي مناشدات بالبقاء واستقال من منصبه بعد مقتل أكثر من 600 شخص. [محمد البرادعي] محمد البرادعي وأضافت الصحيفة أن السيسي لم يثق أبدا في البرادعي غير أن مجموعة صغيرة من الضباط القريبين من وزير الدفاع رأوا فرصة لتخليص مصر نهائيا من الإخوان المسلمين وكان من بينهم اللواء محمد التهامي الذي يترأس الاستخبارات العامة حاليا ووصفته الصحيفة بأنه شخصية ترتبط بعلاقة أبوية بالسيسي، واللواء محمود حجازي الذي خلف السيسي في رئاسة الاستخبارات العسكرية. وتؤكد الصحيفة أن إدارة أوباما قررت في الوقت الراهن الإبقاء على علاقتها الوثيقة مع الجيش المصري دون تغيير جذري، لكنها تحدثت في الوقت ذاته عن تعقيد المشهد المصري وصعوبة التنبؤ به. وكما تقول الصحيفة، فإن قائمة القتلى تتصاعد، والشوارع تنزلق في الفوضى، والتهديدات بالتصعيد تنطلق من الحكومة والإسلاميين على حد سواء، ومن ثم فإنه من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة الجديدة التابعة للجيش ستعمل على إعادة تطبيق نسخة من النظام القديم، رغم أن الناس في مصر يعتقدون أن احتجاجات الشارع أطاحت برئيسين في أقل من ثلاث سنوات، أم أن الإسلاميين سيتراجعون عن مواقفهم طواعية علما بأنهم فازوا في انتخابات ديموقراطية (في البرلمان والرئاسة).