يعود الجدل مرة أخرى إلى دائرة قطاع التربية والتعليم في بلادنا، جدل يرتدي هذه المرة عباءة الأجور أو المنح والتعويضات، بعدما ارتدى في وقت سابق عباءة الإصلاحات، وقبلها ارتدى برنوس اللغة في منطقة القبائل في الإضراب الشهير. وأول أزمة هزت القطاع كانت تصفية الحسابات السياسية والإيديولوجية في المنظومة التربوية بفضيحة تسريب امتحانات شهادة البكالوريا في عهد الوزير علي بن محمد قبل نحو عقدين. وإذا كان البعض يربط أزمة القطاع بأقدم وزير يتولى هذه المهام بدون انقطاع، فإن الأزمة في جوهرها أعقد من بن بوزيد وما يريد الحفاظ عليه أو ما كلف بحراسته، إنه مصير كافة أبنائنا دون استثناء، مع فتح قوس لنقول أن الطرف الوحيد الذي لايهمه أمر المدرسة الجزائرية هو ذات التيار الذي يعمل على تغريبها وإخراجها عن مسارها أو من محيطها الطبيعي والذين يشكلون هذه الكتلة هم أولئك الذين أرسلوا أبناءهم للدراسة في المدارس الأجنبية.. الفرنسية على وجه التحديد، لكن وبرغم هذه الإحاطات يبقى السؤال الجوهري في موضوعنا يتعلق بماهية الأزمة التي يتخبط فيها قطاع التربية والتعليم: هل هي أزمة أجور أم منظومة؟ وإذا كان من الصعب فصل مستقبل التعليم عندنا عن مطالب رفع الأجور وتوفير راتب محترم لرجال التربية والتعليم، فإن أزمة هذا القطاع في الجزائر في نظر البعض هي جزء من أزمة منظومة في العالم العربي برمته، لكن بالنسبة لنا الأمر لايتعلق بالمحيط أو العالم الذي نعيش فيه فقط، إنه مستقبل منظومتنا التربوية نحن، بخصوصياتها التي تدافع التيارات الوطنية والإسلامية المعتدلة من أجل الحفاظ عليها. فالجزائر تنفق نحو 30 بالمائة من ميزانيتها على التربية والتعليم، وهي تخصياصات ضخمة لا نجدها في غالبية الدول العربية وحتى دول ضفة البحر الأبيض المتوسط..إذن المسألة لا ترتبط بالجانب المالي، فقد أطلعنا الوزير بن بوزيد على مسافة لا تعد من جدران المتوسطات والثانويات، كما أطلعنا بشكل واضح على عدد السبورات الحديثة والكراسي والطاولات ..وووو.... وميزانية ضخمة للمشتريات في كل مؤسسة تربوية... لكن وسط كومة الأموال التي تصرف على القطاع لم نعثر ولو في مناسبة واحدة على قرار وزاري يشرك المعلم والأستاذ وأولياء التلاميذ وغيرهم من المهتمين في نقاش مفتوح لمعرفة مصدر الأزمة التي تضرب المنظومة التربوية. لقد ظل رجال التربية والتعليم مهتمين بتوفير الطبشورئ لتلاميذهم، كما ظل معظمهم يترقب دعوة كريمة من وزارة التربية لإشراكهم في إصلاح المناهج التربوية دون جدوى. انظروا بل اسألوا المربين عن نتائج التقسيمات والإصلاحات الجديدة تلاميذ من السنة الخامسة يتنقلون للدراسة في وسط مختلف تماما جلهم يجهلون كتابة أسمائهم بالشكل الصحيح.. اسألوا الأساتذة عن مستوى التلاميذ....إنها كارثة ستدفع البلاد ثمنها في وقت ما عندما نتحصل على نتائج الإصلاحات الأحادية الجانب بواسطة نماذج غير مؤهلة للاضطلاع بأبسط المسؤوليات. لقد عاش الرأي العام في بلادنا بداية من تاريخ الثالث عشر ماي سنة 2000 خلافا سياسيا حادا بعد الإعلان عن التنصيب الرسمي للجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية التي ضمت في ذلك الوقت851 عضوا من مختلف التيارات والمشارب السياسية. وبعد مرور نحو عقد من الزمن على إنشاء تلك اللجنة الموسعة، نجتر اليوم حصادا مرا، عنف مدرسي خطير، نسبة عالية بل قياسية من التسرب المدرسي، تحصيل هزيل، والخطر هيئة تدريس دخلت مرحلة اليأس النفسي الذي يؤثر بشكل مباشر على مستقبل المنظومة التربوية، إضافة إلى هذه العناوين التي ترسم لنا صورة القطاع فإن المدرسة الجزائرية بدأت تفقد وزنها الأخلاقي والتربوي في المجتمع. وعندما تفقد المدرسة هذه الميزة فإنها تفقد وجودها برمته. المطلوب إذن العودة إلى نفس نقطة البداية، البحث عن أسباب الخلل في القطاع الذي دفع ثمن التسييس، وثمن الشعبوية، وثمن تصفية الحسابات. الشيء الوحيد الذي يحسب لنظام التعليم في بلادنا، أنه لازال يحافظ على شعار ''التعليم للجميع''.