من المحزن القول.. إن المسافة التي تفصل العرب عن بلوغ سن ''الرشد''.. لا تزال تقاس بأعمار أجيال.. وليس بعهدة نظام حاكم واحد ينشب أنيابه في السلطة.. كوحش جائع يجثم على الفريسة. فأن يساق ثلاثمائة مليون إنسان عربي بغير هدى.. وبلا وجهة واضحة.. خارج حركة التاريخ.. وتحت لهيب السياط.. أعني بصورة مخالفة لأبسط قواعد المنطق.. وضوابط العقل.. فهذه جريمة ضد الإنسانية - كما يقولون - وسلوك ينافي الأخلاق الشريفة.. ومحاولة لدحرجة التاريخ على رأسه. لقد تحول العرب إلى ما يشبه حلقة مجاذيب.. غاب وعيهم.. وسقطوا في حالة ذهول مثيرة.. قد لا تتلوها استعادة وعي.. ولا يعقبها صحو..! هل نحن أمة سقطت في المحظور.. ولم تعد قادرة على الخروج منه.. لتموت تحت وطأة أنظمة لا تبصر إلا عروشها.. وتفقد في كل يوم شيئا من كيانها.. ثم لا تفكر في استنقاذ روحها من الضياع والتلاشي؟ للأسف.. هناك من يكسر المرآة.. كي لا يتجلى وجه العرب الحزين كما هو.. ويفضل الإشادة بحيوية النظام العربي.. وقدرته الفائقة على البقاء.. ثم ينصحنا بالتفاؤل .. والثقة في الحاكم.. والسير خلفه .. فهو القادر دون غيره على فتح أبواب الجنة..! فقد العرب رشدهم بالجملة وبالتجزئة.. أضاعوه منذ ستين عاما على الأقل.. وفي أكثر من منعطف تاريخي.. فقدوا السيطرة على كوابح الانحراف..ئلينزلقوا بسرعة نحو الهاوية. وبكل تأكيد هم يفقدون رشدهم باستمرار داخل الجامعة العربية.. باعتبارها الحضن الجماعي للأنظمة.. حيث تغسل أدمغتهم السياسية.. ويعاد حقنهم بهرمونات أمريكية وإسرائيلية مبتكرة.. وخارجها أيضا.. أي في القطاع القطري حيث ينفرد الحاكم بالمحكوم.. لينينكل به تحت عنوان رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدولة. أضاعوا رشدهم جميعا.. إلا من بقايا متناثرة هنا وهناك.. وأجزم أنهم بلا وعي يصلهم بالزمان والمكان.. إذ يسيئون التصرف تجاه قضاياهم الكبرى.. بصورة تغيب عنها الحكمة.. وتعوزها البصيرة.. وتتخللها ألوان شتى من الحماقات.. يقبلون فم الأفعى.. وينتفون ريش العصافير. يخسرون الحروب والمواقع والرهانات.. ثم ينامون في قلب المعركة.. لا يراجعون أنفسهم.. ولا يفتشون عن الأسباب التي تدعوهم للهوان والفشل.. ولا يهولهم حجم الخسارة.. ولا مآلاتها الفظيعة.. ولا يتساءلون عن الرابح من يكون.. إذا ما كانوا هم الخاسرين؟ يتحركون ضد قوانين الطبيعة البشرية.. باعتماد القهر والإذلال.. والكي بالنار.. وسيلة وحيدة لتأكيد جدارتهم بالحكم .. وتحويل البشر إلى كائنات مضطهدة الروح.. مسلوبة الإرادة.. غارقة في بحر من الهموم اليومية التي تستنزف الوعي.. وتحيل خلق الله إلى آلات حية يتحكم فيها طلب الخبز صباحا.. والبحث عن مكان للنوم مساء..! يفتقرون إلى إرادة التغيير والقدرة على التفكير.. تطوروا إلى أضخم كتلة مهزومة في العالم.. عقليا ونفسيا وإراديا.. يسيرون مطأطئي الرؤوس.. لا يتكلمون إلا بإذن.. ولا يتنفسون إلا بإذن..وتتصرف فيهم أمريكا.. باعتبارها القيم على شؤونهم .. وصاحبة السلطان عليهم. يحكمون - إذا ما حكموا الشعوب - بتفويض من الغرب وإسرائيل.. ويمارسون مهامهم بموجب قانون المنفعة المتبادلة.. الصمت مقابل العمالة. يجمعون على الخطيئة السياسية.. ويلعنونها.. ولا يتوبون منها.. ينكلون بالمعارضة.. ويتبجحون بالحزم الذي يقتضيه الحفاظ على مصالح الدولة. يعتنقون فكرة العيش بغير قوة ذاتية تحمي الأوطان.. فيعمدون إلى طلب الحماية الأجنبية.. ويتهافتون على اقتناء أسلحة موجهة بالدرجة الأولى والأخيرة لترتيب أوضاع الداخل .. بإرهاب الرافضين.. وفرض حالة من الاستقرار القمعي. يرفضون الانتماء سياسيا إلى هذا العصر.. ويتشبثون بأدبيات متجاوزة.. قديمة جدا.. وغير صالحة للاستعمال.. سقطت الأحزاب الأحادية في العالم كله.. ولا تزال تعيش في العالم العربي.. لتنتج المآسي.. وتكرس الانزلاقات.. ماتت كل الملكيات التي تحكم.. لكنها لا تزال السيدة في العالم العربي.. تتسلط بلا دستور.. وتتصرف بلا شرف .. وتصنف الديمقراطية فعلا يعاقب عليه القانون بقسوة.. وبلا رحمة..! أعطيكم مثالا عن فقدان الرشد العربي.. هل احتلت إيرانفلسطين، واستولت على صحراء سيناء والجولان وجنوب لبنان، وقتلت آلاف العرب؟ هل هجرت الفلسطينيين، وسرقت أرضهم، ولاحقتهم إلى أقصى العالم، سعيا في إبادتهم جميعا؟ هل تملك إيران مئات القنابل النووية.. ولا تتورع عن صبها كرصاص مسكوب على رؤوس العرب عند الضرورة؟ هل أحرق الإيرانيون المسجد الأقصى، وهودوا القدس، ليصنعوا منها عاصمة أبدية لهم؟ هل تسرق إيران الأموال العربية المودعة في البنوك الغربية.. لتحقق بها رخاء إسرائيل؟ هل استقدمت إيران الجيوش الأمريكية لتحتل العراق، ومكنتها من قواعد خلفية ؟ هل تجثم إيران كديناصور عملاق على صدر العرب.. تستنزف أعصابهم وتهد كيانهم.. وتتوعدهم بالموت الماحق في أية لحظة؟ هل تحاصر إيرانغزة، وتقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن أهلها؟ وبالنتيجة.. إما أن تكون إيران قد فعلت هذا .. وإما أن تكون بريئة منه.. فلماذا يعتنق العرب التطبيع مع إسرائيل.. ويعلنون الحرب الكلامية.. والكيد في الكواليس ضد إيران؟ لقد غادر الرشد المجال العربي.. ويئس من العثور على موطئ قدم فيه.. غادره لأنه لا ينسجم مع العمالة والحمق.. ولا يتواءم مع القمع السياسي.. ولا يستجيب لنزق أنظمة فقدت القدرة على الخروج من جيب أمريكا. فمتى يعود الرشد الغائب إلى وطنه؟ سؤال لا أملك الإجابة عنه حاليا.. لكن يبدو أن الجنون الذي يجتاح العرب.. هو ضريبة واجبة على اثنين.. شعوب استمرأت الذلة.. وأنظمة اعتنقت العمالة.