أضحت المنافسة الشديدة بين الدول لاحتضان نهائيات كأس العالم، ضمن الأجندة الشخصية لصانعي القرار لإثبات قدراتهم في الدفاع عن سمعة البلد من جهة، وتحقيق المنافع المالية لجماعات المصالح وما يعود على الدولة من مكتسبات مادية، وهو ما يترجم السلوك العدواني للرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي اعتبر فوز قطر على بلده بالقرار الخاطئ والسيئ من قبل الفيفا· كما اعتبر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، فوز روسيا على بريطانيا بالمفاجأة التي منعته من أن يعيش عرسا عالميا لم تشهده لندن وضواحيها منذ سنة 1966 تاريخ ميلاده، وأقسى تعليق في الصحف البريطانية ما اعتبر أن قرار الفيفا بمنح احتضان كأس العالم لروسيا هو تعبير عن قاسم مشترك بين الفساد المالي والرشاوى الذي تعرفه الفيفا ودولة المافيا التي تقودها نخبة ''الكاجي· بي'' السوفياتية سابقا، والتي تدير دواليب السلطة بالفساد المالي·وإذا كان الأمريكيون قد اعتبروا خسارة بلدهم، هي خسارة أوباما بعد أن عجز في الدفاع قبل ذلك عن مدينة شيكاغو في الدنمارك لاحتضان الألعاب الأولمبية التي ستجري في سنة ,2016 فإنه بالمقابل، كانت الفرحة في دولة سماها الغرب بالدولة المجهرية التي استطاعت أن تتغلب على دول أكبر منها، وهنا يجعلنا نعيد حساب معايير الدولة الكبيرة والدولة الصغيرة أو المجهرية، فالحسابات الأمريكية والأسترالية كانت قائمة على معايير القوة الجغرافية والقوة الديمغرافية، وهو الاعتقاد الذي بنت عليه حساباتها مع دولة مجهرية مثل قطر التي لا تتعدى مساحتها 12 ألف كلم مربع، وهي أقل من ولاية أمريكية من ضمن 50 ولاية، يضاف أن الضعف البشري لقطر الذي لا يتعدى الملونين، 80 بالمائة من السكان من الأجانب، وهذه الحسابات التقليدية لعناصر قوة الدولة يضاف إليها المعيار العسكري، حيث تمتلك واشنطن العالم عن طريق القواعد العسكرية وأسطولها البحري الممتد من الأطلسي إلى المحيط الهادي والبحر المتوسط، ثم أن ما تنفقه واشنطن على قوتها العسكرية يفوق 500 مليار دولار سنويا، مما يجعلها تتفوق على الدول العشر التي تليها مباشرة وهي مجتمعة، بينما قطر لا تمتلك إلا قاعدتين عسكريتين تملكهما واشنطن في إستراتيجيتها العسكرية في الشرق الأوسط في الحرب ضد أفغانستان والعراق، وبهذا المعنى فإن قطر لا تمثل إلا دولة محمية تحت المظلة العسكرية الأمريكية، وهو ما يجعل صناع القرار في واشنطن يعتقدون أن قطر لا يمكن أن تنافسهم انطلاقا من هذه الحسابات لعناصر القوة التقليدية، أي الجغرافية والديمغرافيا والقوة العسكرية· بينما في واشنطن هناك من يعتقد بعناصر قوة الدولة خارج مفهوم القوة الصلبة، ما يسمى بالقوة الناعمة التي تقوم على الجاذبية والإغراء التي تدمج في إطارها قوة الإعلام، وقوة الدبلوماسية، وقوة المال واستخدامه في التأثير على الآخرين بما يخدم سمعة ومكانة الدولة مهما كانت، يضاف إليها إرادة النخبة الحاكمة في التغيير من صورة وهوية البلد في الخارج، وهو ما وظفته الدوحة في منافستها مع واشنطن وسيدني وسيول وطوكيو مجتمعين، فإذا حسبنا قوة الإعلام القطري بقناة الجزيرة وملحقاتها الرياضية والتوثيقة والإخبارية باللغات العالمية، نجد أن هوية ومكانة وسمعة قطر قد سبقتها إلى زيوريخ قبل التصويت النهائي، وقوتها الرياضية في التعامل مع الفيفا قد اتضح تأثيرها في الفوز ببث مباريات مونديال جنوب إفريقيا في قنواتها الرياضية العشرة· كما استطاعت قطر أن تتحدى الجغرافيا وتأثيراتها السلبية عن طريق قوة التكنولوجيا والقوة الإنسانية، فالاعتقاد الكلاسيكي أن البيئة الجغرافية في فصل الصيف في دول الخليج عموما وقطر على وجه الخصوص تصعب من احتضان بطولة عالمية تجري أحداثها في فصل الصيف، حيث يتجاوز معدل درجة الحرارة 50 مئوية، لكن باستخدام القوة المعرفية كعنصر جديد في قياس قوة الدولة المعاصرة جعل التأثير القطري أقوى من منافسيه لتجاوز هذا التحدي المناخي، حيث وعدت وبالتجربة أن تستخدم التبريد الهوائي لضمان درجة حرارة في عز الصيف أقل من 28 درجة مئوية، وذلك باستخدام الجيل الثاني من التبريد الذي يعتمد على الطاقة الشمسية مما يساعد على الحفاظ على البيئة· أما فيما يتعلق بالوجه الآخر للقوة الناعمة التي اعتمدتها قطر، فقد وعدت بتفكيك المدرجات بعد انتهاء المونديال للتبرع بها للدول النامية لتطوير كرة القدم عن طريق تمويل المنشآت الرياضية، وهو عنصر قوة يحسب في ميزان جاذبية وإغراء الدولة القطرية من خلال دبلوماسية المساعدات الإنمائية·وإذا كان الرئيس أوباما قد تغيب عن قرعة زيوريخ، بسبب الأجندة المزدحمة بالنشاطات السياسية، إلا أن حضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي تولى الرئاسة باسم الحزب الديمقراطي لفترتين متتاليتين لم تشفع لدولته ولا لأوباما لكسب نقاط إضافية، والفارق في النقاط يبدو واضحا، 14 نقطة لقطر مقابل 8 نقاط لواشنطن، وهنا يمكن أن نركز على تأثير النخب الحاكمة في عملية التصويت، حيث تعمدت العائلة المالكة في قطر حضور القرعة بتسويق سياسي لصورة قطر المستقرة في ظل الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل الثاني، وحرمه الشيخة موزة وولي العهد تميم بن حمد آل الثاني، الذي تولى أمانة الملف ومتابعته، مع الاعتماد على اللاعب من الأصول الجزائرية زين الدين زيدان لتسويق صورة قطر الرياضية· ويبدو أن صناع الرأي العام وتسويق الصورة الإعلامية الذين تكفلوا بالعائلة المالكة، قد حققوا نجاحات أثرت على الصورة النمطية لدى الرأي العام الغربي الذي يصور الخليجي بالبدوي الذي لا يملك إلا سلطة المال والشهوة، وحتى اللباس الذي اعتمد من قبل العائلة المالكة في حفل الإعلان عن الدولة المستضيفة للمونديال يعطي الانطباع بالانسجام العائلي في ظل المعاصرة والأصالة، فلم تتخلى حرم الأمير عن غطاء الشعر رغم البدلة الأنيقة رمانية اللون، التي تعكس لون العلم الوطني، بينما راح ولي العهد يخاطب الرأي العام العالمي بعد الفوز بلغة شكسبير العالمية تحت مراقبة والده، وهو تحدي آخر من قطر يوحي بأن المنافسة السلمية بين الأمم لم تعد خاضعة للمقاييس التقليدية لقياس قوة الدولة، وأول قرار اتخذ بعد العودة للدوحة الإعلان عن بدأ المشاريع الضخمة التي ستبدأ بمائة مليار دولار لتحضر البنية التحتية ذات البعد المستقبلي، من سكك حديدية إلى ميترو بالمقاييس العالمية يضمن للأنصار التنقل بين الملاعب في أقل من ساعة، وهي ورقة تحسب لقطر مقارنة بالدول ذات المساحات الواسعة، حيث يتعذر على الأنصار متابعة كل المباريات بسبب بعد المسافات· بينما مونديال قطر سيجري في مسافة لا تتعدى 50 كلم مربع· وفي انتظار مونديال سنة ,2022 يبقى العالم يراقب جزيرة قطر الواقعة في شرق أوسط غارق في بحر من الأزمات الإقليمية، التوسع الاستيطاني الصهيوني، التمدد الإيراني النووي، بناء الدولة في العراق ما بعد الاحتلال وما بعد طالبان في أفغانستان·