يرد زعيم حركة النهضة التونسية، الدكتور راشد الغنوشي، في حواره ل”البلاد” عن التهم الموجهة إلى الثورات الشعبية الحاصلة في أكثر من قطر عربي، بأنها تندرج في سياق أجندة غربية جديدة لتفكيك وتشتيت الدول القطرية العربية· كما يتحدث عن مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة العربية وتأثير ذلك على مشروع الإسلام السياسي، مشيرا في نهاية حواره إلى أن التغيير في الدول العربية صار خيارا حتميا لا يستثني أي أحد، لكنه أكد بالمقابل أن صوره ستأخذ أشكالا مختلفة حسب رصيد التجربة والوعي الموجود في كل دولة· بداية، كيف وجدتم الجزائر وأنتم تعودون إليها بعد 20 سنة؟ أحمد الله أن يسر لي زيارة الجزائر بعد عشرين سنة من الغربة عن تونس وعن الجزائر، لأن مجموعتنا التي هاجرت من بطش قبضة نظام بن علي كانت وجهتها إلى الجزائر، وحقيقة وقتها لم نشعر بالغربة إلا بعد مغادرتنا إلى أوروبا، وكنا كمن ينتقل من بيته إلى بيت عمه وقد غادرنا هذا البلد الطيب قلعة الثورة، وها نحن نزوره الآن والحمد لله بعد أن منّ الله علينا بهذا النصر العظيم الذي هو ثمرة من ثمرات ثورة 14 جانفي· بحديثك عما حصل في تونس، هناك من يرى أن الثورات العربية ليست إلا نتاج مخطط ”سايكس بيكو” جديد، ما مدى واقعية هذا الطرح؟ هذا خطأ كبير في الرؤية والتحليل، كما أنه تضخيم وتهويل لسلطان الغرب على عالمينا العربي والأسلامي، والتصور بأن الغرب إله لا يحصل شيء في العالم إلا بإذنه ليس قدرا محتوما علينا، فهذا الغرب ذاته يعاني من انعكاسات الليبرالية المتوحشة وكل المنظومة المالية والاقتصادية الغربية التي ينظر إليها البعض بكل هذا الانبهار المبالغ فيه معرض للانهيار مرة أخرى، والولايات المتحدة نفسها تعيش حالة إفلاس واضطراب ستجعلها في النهاية تنكفئ وتنكمش على ذاتها لعجزها عن تمويل نفوذها في العالم، وهذا ثمرة من ثمرات هذه الثوارت التي حصلت في زمن تراجعت فيه الرأسمالية والنفوذ الأجنبي، لذلك في اعتقادي أن أخرج بخلاصة من هذه الثورات القائمة أنها حجمت دور الخارج لصالح إرادة التغيير الداخلية· يعني أنتم تنفون وجود أي تدخل للغرب في الثورات الحالية ولا حتى محاولة ركوبها على الأقل؟ الثورتان التونسية والمصرية لم تكونا ثمرة أي نفوذ خارجي، بل إن الخارج نفسه فوجئ بهاتين الثورتين خصوصا وأن مسارهما حسم الأمور بسرعة لم تكن تتوقع أي جهة في العالم، مما ترك الغرب في حالة ذهول لم يجد أمامها الوقت حتى للتدخل، بينما في الثورات التي بعدها أصبح الغرب يحاول أن يتدخل وأصبح للأنظمة الإقليمية القدرة على التدخل لدعم الدكتاتوريات· فمن التهويل إذن الحديث عن دور فاعل وسيطرة مطلقة للخارج على كل ما يجري من حراك شعبي على أكثر من صعيد في العالم العربي، ولحد الساعة لا يوجد أي دليل على أن الثورة التونسية كان للغرب يد فيها بل الدلائل قاطعة على غير ذلك· ولعل الجميع يذكر أنه في الأسبوع الثاني من الثورة التونسية، أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية ذات النفوذ الكبير تأييدا مطلقا لنظام بن علي وعرضت خبرة فرنسا الأمنية لصالح بن علي، فأين التدخل الفرنسي هنا أو في مصر، في هذا البلد مبارك وصف بأنه الكنز الإستراتيجي للسياسات الغربية في المنطقة فكيف يسمح بسقوطه هكذا، لو كان الإبقاء عليه ممكنا لكانت إسرائيل بكت دما على بقاء مبارك· هناك قراءات أخرى تقول بأن الثورة التونسية وغيرها قد وضعت حدا للمشروع الإسلامي بالشكل التقليدي؟ هذه تخريفات، رددها منظرون غربيون هم لا يعكسون الواقع على الأرض بل يصورون أحلامهم وعداواتهم للإسلام والديمقراطية بهكذا كلام، كم تحدثوا عن نهاية الإسلام السياسي وما بعد الإسلام السياسي، لكنني أجزم هنا بأن الحركية الإسلامية لم تكن يوما أقوى مما هي عليه الآن، وهي في صدارة كل الثورات القائمة فكيف يعقل أن ترسي الثورات تقويما جديدا ليس فيه للإسلاميين مكان وهم الذين قدموا التضحيات خلال الخمسين سنة الماضية وعلى الأقل خلال عشريتين في تونس وثلاثين سنة الماضية في مصر، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون هذا التيار أكثر الرابحين بسقوط الدكتاتوريات بينما أحزاب علمانية كثيرة في مصر وتونس كانت متعايشة مع النظام التونسي وكانت في قلب حتى المؤسسة الأمنية والإعلامية والسياسية والتعليمية في تونس من رموز تلك المرحلة محمد الشرفي شيوعي سابق وضع على رأس وزارة التربية والتعليم من أجل تجفيف ينابيع الإسلام ضمن خطة الحرب على الحركة الإسلامية والإسلام نفسه في تونس والإعلام في تونس· وفي مصر كان بيد العناصر العلمانية· نحن لا نقول اليوم إن هذه الثورات لا أحد صادقا يدعي زعامتها على الأقل الثورتان المصرية والتونسية وكذلك اليمنية وغيرها من الثورات التي لم ترفع صورة لزعيم لا إسلامي ولا لعلماني ولا شعارات حزب معين، فلماذا يراد أن يقصى منها الإسلاميون هم الأكثر تضررا والأكثر ضحايا في مواجهة الأنظمة الدكتاتورية، فالثورات شعبية شاركت فيها كل الفئات وبالأخص المتضررة من الدكتاتوريات المنهارة· هل تعتقدون أن هناك أطرافا تدفع الأمور نحو حدوث صادم بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس ومصر على سبيل المثال؟ لا معنى للمواجهة بين العلمانيين والإسلاميين، وأرى البديل هو ائتلاف يشارك فيه الإسلاميون وغير الإسلاميين، وواحدة من التحديات التي تواجه الثورة في تونس وفي مصر أن لا أحد من التيارت يستطيع وحده مهما كان قويا أن يواجهه بمفرده، لذلك نحتاج الى تضافر جهود حكومات ائتلاف وطني على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة· ربما، هذه واحدة من الأسباب التي جعلتكم ترفضون تولي الحكم ولو أعطاكم الشعب ذلك عن طريق صناديق الاقتراع؟ كل سبر آراء في تونس واختبارات الرأي تجعل النهضة في المقدمة وتجعل رئيس النهضة في المقدمة قياسا بالزعامات الأخرى وبفارق كبير بينه وبين الذي يليه ومع ذلك نحن رعاية للأوضاع القائمة وحتى لا نعطي انطباعا بأننا نريد الاستيلاء على السلطة ولو عبر صناديق الاقتراع· قمنا بإجراءات من جملتها أنني أعلنت بأنني لن أدخل في أي منازلة سياسية لا على رئاسة ولا وزارة ولا نيابة، وأعلنا ولازلنا نؤكد أننا نعمل من أجل حكومة ائتلاف وطني تشارك فيها التيارات الرئيسية الإسلامية والوطنية واللبيرالية واليسارية، وهناك روابط مشتركة بيننا وبين هذه الأحزاب من خلال الحركة التي تكونت في العشر سنوات الماضية وهي حركة 18 أكتوبر التي التقت حول أرضية مشتركة ووضعنا خطة لنمط المجتمع الذي نريد من نظام ديمقراطي لا يقصي أحدا، حرية إعلام، عفو تشريعي عام يصفي جرائم الماضي، نريد مجتمعا فيه التساوي بين الجنسين، نريد استقلالية القضاء والتداول السلمي على السلطة وهذه أرضية مشتركة بين التيارت المختلفة في تونس، مما جعل هذا يمهد للثورة· ولهذا التقى الجميع حول شعارات الثورة من عدالة ومساوة ومقاومة الظلم ··ألخ· كنتم من المتابعين للتجربة الجزائرية بعد الانفتاح، هل ستتفادون الوقوع في نفس المطبات التي وقع فيها زعماء الحزب المحل؟ لا شك أن هذه التجربة أفادتنا كثيرا · ربنا عز وجل يقول (إن في قصصهم لعبرة) والتجربة الجزائرية ثرية جدا واستفادت منها الحركة الإسلامية في العالم· وكل ابن آدم خطاءون، والمطلوب أن نجعل من أخطائنا رصيدا نعتمد عليه لأننا بشر ومن الطبيعي أن نستفيد من تجارب بعضنا بعضا· كيف تتوقعون تأثير أجواء الثورة عندكم على واقع العلاقات الجزائريةالتونسية؟ نتوقع أن مشكلات كثيرة لم يكن ممكنا تجاوزها في السابق هناك آفاق اليوم للتغلب عليها عن طريق تنشيط مسعى إستراتيجي ما يحقق حلما ظلت أجيال ترنو إليه منذ الخمسينات، وهو حلم المغرب العربي الكبير· فتعطل السير نحو تحقيق هذا الحلم تولدت عنه مشكلات كثيرة وقضايا متنوعة· ونتوقع أن الثورات التي ستفرز حكومات ديموقراطية ستجعل مشروع المغرب العر بي أقرب للتحقيق من أي وقت مضى، بما يحقق أحلام أجيال وأجيال خابت، والتغلب على مشكلات كثيرة لم يكن التغلب عليها· وخمسة وثلاثون دولة أوربية موحدة فلماذا نحن غير موحدين رغم كثرة الروابط التي تجمعنا مقارنة بالروابط التي تجمع أوروبا؟! كيف يرى الشيخ الغنوشي ما يحدث في سوريا وليبيا واليمن؟ الأمر مؤلم جدا· فالمجازر تحدث يوميا في سوريا وفي ليبيا، ونتمنى أن يوضع حد لهذه المجازر: إما أن القائمين بها يقلعوا من تلقاء أنفسهم ويدركوا أن هذا الحكم لم يعد مجديا أو أن السيل الطوفاني للثورة سيجتاح هذه الأنظمة· فهذه الأخيرة بين خيارين: أن تفهم في الوقت المناسب ولا تكون كصاحبنا في تونس الذي فهم متأخرا أو أن تفهم أن الزمن غير الزمن والتاريخ غير التاريخ، فنحن اليوم في زمن جديد وتاريخ جديد· فالشعوب تطالب بحقوقها في قيام أنظمة ديموقراطية حرة فيها كرامة للمواطن وتوزيع عادل للثورات وانتخابات نزيهة ومشاركة للجميع في التسيير والوحدة العربية والمغاربية وغيرها من المطالب المتعارف عليها إعلاميا وإنسانيا· ما رأيك في الأنظمة التي سارعت إلى الإصلاح السياسي كما هو الحال في الجزائر والمغرب؟ رأينا ذلك، كما أشرت، في المغرب والجزائر، ونأمل أن تتواصل حتى نقتصد الجهد والوقت والدماء· فالشعوب يكفيها ما سال من دمائها· نحن في زمن جديد، يجب أن يتفاعل الجميع مع مطالب الشعوب ويحترمونها· إذا أنتم ترون أنه ليس من الضروري إحداث التغيير في الجزائر عبر ”ثورة”؟ الثورة التونسية ليست للتصدير والجزائر ليست في حاجة لتستورد ثورة من الخارج، وفي ثورتها وتراثها من الثورات الكثير ما يكفيها لتنطلق في صناعة نموذج يرضي الجميع ويليق بهذا البلد لينطلق انطلاقة أخرى، وما حصل في تونس ومصر ليس للتصدير بل للعبرة· والعبرة أن هناك زمنا جديدا ينبغي لكل الحكام أن ينطلقوا من أرضهم ومن بلدانهم للتفاعل مع هذا الزمن الجديد· تزورون الجزائر لأداء واجب العزاء في الراحل عبد الرحمان شيبان، هل الشيخ راشد سيزور الجزائر مستقبلا للقاء المسؤولين هنا؟ على كل حال، الشيخ شيبان رجل مبارك ونحسبه من الشهداء لأنه رجل مجاهد وكان يمكن أن يكون قد استشهد في الثورة وكانت له نية الجهاد ومن بركات هذا الرجل أنه نفع وهو ميت فكانت هذه اللقاء والتأبينات والندوات التي تنعقد إثر وفاته وهو جسر تواصل بين تونسوالجزائر باعتباره طالبا زيتونيا· أما بخصوص الشطر الثاني من السؤال، فنحن متفائلون بمستقبل العلاقات الجزائريةالتونسية· فبلادي التي كانت لها مواقف في تأييد الثورة التحريرية، كانت تتوقع دائما ولازالت أن الجزائر ظهير لتونس وداعمة لها لأننا شعب واحد وأمة واحدة والموقف الجزائري من الثورة التونسية كان إيجابيا والوزير الأول السبسي عاد مسرورا من الجزائر لما لاقاه من دعم مادي ومعنوي·