لو فهم الديكتاتور من يكون·· ما لبث ديكتاتورا لحظة واحدة·· ولاختار أن يعيش مواطنا بسيطا من الدرجة العاشرة·· يشتغل عامل نظافة·· ويأوي كل مساء إلى بيته·· آمنا مطمئنا·· قانعا بما تيسر له من كفاف الحياة ·· لا يعاني من فرط الضغط·· ولا من تصلب الشرايين·· ولا من الصداع المزمن·· والارتجاف·· والأرق ·· وكربات السياسة·· وحصائل الأوبئة النفسية والعصبية· ولفضل أن يحيا بشرف·· ويموت شامخا بكل شرف·· من أن ينتهي جثة متحللة·· يتفرج عليها الجمهور في مرآب مهجور·· أو مومياء شبه حية ملفوفة في بطانية·· تعرض يوميا على قاضي الجنايات·· أو نصف كائن تائه·· يتلعثم إذا نطق جملة مفيدة·· أو حتى ديكتاتور يبكي حظه العاثر في أحضان الشبيحة!! أزمة الديكتاتور·· تكمن في أنه لا يفهم نفسه·· ولا يفهم غيره·· ولا يدع الناس يفهمونه·· ويرفض متابعة دروس في تاريخ من سبقوه·· ولا يستمع لنصيحة طبيبه (·· إنك يا حضرة الديكتاتور·· مريض جدا·· ومرهق جدا·· فوجهك القمعي شاحب للغاية·· وقواك العقلية ضامرة تماما·· وحالتك العاطفية سيئة·· وطريق شفائك معلوم·· أن تأخذ جرعات قوية من مضادات العجرفة والاستكبار·· وتتناول ما توفر من حبوب مقاومة التسلط والاستبداد·· وتستعمل نظارات تصحيح الرؤية كي لا تقع في حفرة التاريخ)·
ٌٌٌ
ولأن الديكتاتور يسبح في دوامة رهيبة من الأوهام·· يتحول الشعب بين يديه إلى كائنات دقيقة·· لا ترى بالعين المجردة·· وينقلب ملايين المواطنين إلى أصفار·· أو كسور في أحسن الأحوال·· ويستغني عن غيره·· لأنه قائم بذاته·· مكتف بحوله وقوته·· وتستجيب الطبيعة لهواه·· فيخال الشمس تشرق لتضيئه·· والمطر يهطل ليغسله·· والعصافير تغرد لسواد عينيه·· والمتزلفين والمنافقين والمتسلقين يصفقون لفصاحة لسانه·· وعذوبة بيانه·· وإشراق فكره·· ودماثة خلقه·· وحسن كرمه·· وجميل عفوه·
هذا هو الديكتاتور باختصار·· حالة مستحكمة من غياب الفهم ومن الوهم ·· فهل تستطيع حكومتنا·· هذه الحكومة بالذات·· التي تريد أن تنظم انتخابات حرة ونزيهة·· وتدعو الشعب بواسطة المحمول إلى استشعار المواطنة والمسؤولية·· أن تثبت براءتها من مواصفات الديكتاتور الذي يرفض القراءة والكتابة على غرار الطفل الذي يحمل عنوة إلى المدرسة ·· والذي يجهل أو يتجاهل كل شيء·· الشعب·· والوطن والدولة والعالم والإنسان·· والحاضر والمستقبل·· ومتغيرات الربيع العربي·· ليتحول في النهاية إلى ثقب أسود يمتص كل نور يقترب منه·· وهل تقدر الحكومة على استشعار ما يتفاعل في رؤوسنا نحن المواطنين·· قبل أن تشتم رائحة العجلات المحترقة·· وتنكسر الأواني الزجاجية على رأسها؟
الظاهر·· ألا أحد في هذا البلد يفهم أحدا·· أو يملك الاستعداد لفهمه·· فكل طرف يتكوم داخل قفصه·· قابضا بيديه على مفتاحه الخاص·· مهددا بإلقاء نفسه من الطابق العشرين أو المائة والعشرين إن اقترب منه أحد·
الحكومة تستثمر في الغموض·· وتضخ جهودها في تعبئة سوء الفهم·· لتبقى كما تعتقد خزانة السر الوطني الأكبر·· والطلسم المبهم·· واللغز المستعصي على الحل·· فهي تأبى أن يفهمها أحد·· كي لا يقال إنها مكشوفة أو عارية·· وكي لا يعترض سبيلها مواطن·· يسألها حقه في ضمانات الحياة الشريفة·· بدءا بحريته وانتهاء بخبز أولاده·· مقابل ذلك·· تعتقد أنها تفهم كل شيء·· وتستوعب كل ما يجري حولها·· ومسبارها المحلق في سماء الجزائر·· يلتقط كل حركة أو إشارة·· من مواطن يتململ أو حزب ينتظم·· أو مؤسسة تسعى·· أو أطفال يلعبون في الشارع·· أو مهرب يتسلل من أقصى الجنوب·
أما الشعب الذي حرن في زاوية معتمة·· يبعثر الطلاسم في طريق الحكومة·· ككتلة غامضة·· وجسم غير معلوم المدى·· فلا يمكن التنبؤ بمزاجه·· ولا وجهته·· وماذا سيفعل حين يستيقظ·· وما هي ردود أفعاله إزاء غموض هذه الحكومة·· وماذا سيقول لو نطق بعد هذا الصمت الطويل·· وهل سينتخب أم يقاطع·· يخرج إلى الشارع·· أم ينام في بيته·
ٌٌٌ
الشعب يرى أن الحكومة تحفر في جسده بخط مسماري منقرض·· كلوحة من مخلفات حمورابي·· ويشعر أن دمه·· مدادها المفضل·· والحكومة ترفض الاعتراف بخط الشعب·· وتدعي أنه غير مقروء·· وأنه خط المبتدئين الذين ينحرفون عن السطر·· وأنه لم ينضج بعد·· لترخص له باختيار برلمان حر·· وطني ومسؤول·
في المقابل لا تنصت الحكومة للشعب·· وتدعي أن لغته مجرد طقطقة بدائية·· لغة شارع·· ومفردات أهل الكهف حين عادوا إلى الحياة بعد نوم عميق·· وتترجم سلوكها إزاءه بمزيد من الإعراض·· والنكاية والتشفي·
ويقابلها المواطن بالقول·· هذه الحكومة تلعب خارج القاموس·· ومفرداتها رمم من زمن الحزب الواحد·· هي لا تعيش في هذا العالم·· بل تطوف خارج المجموعة الشمسية بحثا عن شعب لم يوجد بعد؟
إنها معضلة سوء الفهم المتبادل·· وحوار الصم البكم·· الذين عجزوا عن استيعاب لغة الإشارة·· وانقطاع التواصل بين خلايا الجسم الوطني·· حيث السيالة السياسية للدولة غير مشحونة بأية رسائل·· والدروب مظلمة·· ولغة التواصل مكسورة الظهر والأطراف·
من·· يفهم من؟ في دورة الغموض والإعراض والإصرار على نفي الآخر·· وتقديس الرأي الشخصي·· وشخصنة الدولة·· وسوء الفهم أحيانا·· وعدم الفهم في أغلب الأحيان·· وإلى هذه الساعة تحديدا·· أعتقد أن لا أحد في هذا البلد يفهم أحدا·· فمبروك لنا الجهل والجهل المضاد·· والعقبى لأجيال المستقبل