حديثنا اليوم عن قصة المائدة التي خصص سورة باسمها.. ما سببها وما الدروس المستفادة منها؟ تأتي هذه القصة في معرض النعم على عيسى بن مريم وأمه, إلى شيء من نعمة الله على قومه، ومن معجزاته التي أيده الله بها وشهد بها الحواريون. إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم, هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نريد أن نأكل منها, وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا, ونكون عليها من الشاهدين. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قال الله: إني منزلها عليكم, فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين " . قال ابن كثير في التفسير: "روى الليث بن أبى سليم عن مجاهد قال: "هو مَثَل ضربة الله ولم ينزل شيء " رواه ابن أبى حاتم وابن جرير. ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم - هو ابن سلام - حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تنزل عليهم.. وقال أيضا; حدثنا أبو المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن، أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل.. وحدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد، عن قتادة, قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابالاأعذبه أحدًا من العالمين) قالوا: لا حاجة لنا فيها, فلم تنزل ". ولكن أكثر آراء السلف على أنها نزلت.. لأن الله تعالى قال: (إني منزلها عليكم). ووعد الله حق. وما أورده القرآن الكريم عن المائدة هو الذي نعتمده في أمرها دونسواه. معاني الآيات إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين". فقد رد عليهم عيسى - عليه السلام - محذرًا إياهم من طلب هذه الخارقة.. لأن المؤمنين لا يطلبون الخوارق, ولا يقترحون على الله. قالوا: نريد أن نأكل منها, وتطمئن قلوبنا, ونعلم أن قد صدقتنا, ونكون عليها من الشاهدين". ولكن الحواريين كرروا الطلب, معلنين عن علته وأسبابه وما يرجون من ورائه، فهم يريدون أن يأكلوا من هذا الطعام الفريد الذي لا نظير له عند أهل الأرض، وتطمئن قلوبهم برؤية هذه الخارقة وهي تتحقق أمام أعينهم; ويستيقنوا أن عيسى عليه السلام قد صدقهم, ثم يكونوا شهودًا لدى بقية قومهم على وقوع هذه المعجزة. عندئذ اتجه عيسى - عليه السلام - إلى ربه يدعوه: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. واستجاب الله دعاء عبده الصالح عيسى بن مريم; ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه.. لقد طلبوا خارقة. واستجاب الله. على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذابًا شديدًا بالغًا في شدته لا يعذبه أحدا من العالمين. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فهذا هو الجد اللائق بجلال الله; حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهوًا. وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع! وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة.. فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا, أو أن يكون في الآخرة. الدروس والعبر من القصة روى الشيخ حسام العيسوي إبراهيم "إمام وخطيب" إن لقصة سيدنا عيسى عليه السلام مع الحواريين حول المائدة، دروس وعبر كثيرة، وشرحها في التالي.. أولا: التركيز على حقيقة الوحدانية لقد كان الحواريون -وهم تلاميذ المسيح وأقرب أصحابه إليه وأعرفهم به- يعرفون أنه بشر.. ابن مريم.. وينادونه بما يعرفونه عنه حق المعرفة. وكانوا يعرفون أنه ليس رباً وإنما هو عبد مربوب لله. وأنه ليس ابن الله, إنما هو ابن مريم ومن عبيد الله. وكانوا يعرفون كذلك أن ربه هو الذي يصنع تلك المعجزات الخوارق على يديه، وليس هو الذي يصنعها من عند نفسه بقدرته الخاصة.. لذلك حين طلبوا إليه, أن تنزل عليهم مائدة من السماء, لم يطلبوها منه, فهم يعرفون أنه بذاته لا يقدر على هذه الخارقة.. وإنما سألوه. "يا عيسى ابن مريم, هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء? وقضية الألوهية والربوبية كانت عليه مدار الآيات في معظم السورة، ولذلك ختم الله تبارك وتعالى هذه القضية بهذا الحوار بينه وبين عيسى عليه السلام في آخر السورة فقال: " وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) " . والتوحيد شعار المسلم في هذه الحياة، ولذلك حثنا الله تبارك وتعالى على التحلي به وذلك من خلال: ثانيا: وجوب إخلاص المحبة لله قال تعالى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حباً لله " . وقال تعالى: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين ". ثالثا : وجوب إفراد الله تعالى في الدعاء والتوكل والرجاء قال تعالى: " ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ". رابعا ً: وجوب إفراد الله تعالى بالخوف منه قال تعالى: "فإياي فارهبون " . خامسا: وجوب إفراد الله عزوجل بجميع أنواع العبادات يقصد جميع أنواع العبادات هي: "البدنية من صلاة وركوع وسجود وصوم وذبح وطواف وجميع العبادات القولية من نذر واستغفار". قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " النساء: 48