تكمن أهمية المساحات الخضراء في انعكاساتها الإيجابية على حياة الأفراد ونوعية الوسط، بالنظر لوظائفها المتعددة التي تعتبر من صميم المنفعة العامة، فهي أماكن للراحة والهدوء لسكان المدن، لكن الجزائر البيضاء تعيش اليوم واقعا مؤلما ومتأزما، من هذه الناحية، وأهم مؤشرات ذلك تنامي البناء العشوائي بشكل سريع لأسباب عديدة، أهمها الضغط السكاني على المدن كتصاميم التهيئة مثلا وضعف مراقبة البلديات لقطاع التعمير لاحترام التصاميم. وهي مظاهر خطيرة تؤثر على البيئات الحضرية وتساهم في تلوثها على مستويات عديدة، أهمها اختلال التوازن بين المساحات المبنية والمساحات الخضراء، تدمير الحزام الأخضر للمدن، انتشار أحياء لا تتوفر على الشروط والمعايير الصحية الأساسية للسكن اللائق. عموما فان هذه العوامل تحول السكن العشوائي إلى أحد أخطر عوامل اختلال التوازن داخل البيئة الحضرية بالجزائر، ويسمح بتناسل ما يشبه العلب الإسمنتية التي تفتقر إلى التهوية الضرورية، كما تفتقر إلى كل شروط السكن الصحي، ما يعرض حياة سكانها لآفات خطيرة. فرغم الاهتمام الكبير الذي توليه مصالح ولاية الجزائر لإنجاز المساحات الخضراء وأماكن الترفيه والحدائق العمومية بالأحياء السكنية في ظل احتياج العائلات لذات المتنفس، بتسخيرها لمبالغ ضخمة ضمن ميزانيات بلديات العاصمة ال57 قصد توجيهها لإنشاء فضاءات الراحة، لكن هذا النوع من المشاريع يعرف تماطلا وتعطلا أولم ينجز من الأساس رغم الوعود المتكررة التي يطلقها رؤساء البلديات في كل مرة ليطرح هذا الإشكال أكثر من علامة استفهام حول مصير الميزانيات المخصصة لها وكذا الأسباب الكامنة وراء تعطل تجسيدها، ما جعل "الجزائر الجديدة" تقوم بجولة تفقدية بعدد من بلديات العاصمة للوقوف على حقيقة تجسيد الوعود على أرض الواقع. البساط الأخضر ينتعش ببلديات ويحتضر بأخرى عين البنيان بلدية تقع غرب العاصمة، تكتسحها المساحات الإسمنتية على الرغم من كونها مدينة ساحلية، تتميز بموقع جغرافي واستراتيجي يسحر الألباب ويفتن أنظار كل من يقصدها، غير أنها تفتقر لمساحات الترفيه والتسلية، حيث لم تحرك سلطاتها ساكنا لتحويلها إلى قطب سياحي يفتخر به أبناؤها، لتطغى حالة من الفوضى العمرانية، التي أفرزها الغزو المستمر للرقعة الإسمنتية، خاصة منها البناءات الفوضوية والقصديرية التي باتت تشوه المنظر العام للمنطقة. وأول ما شدّ انتباهنا ونحن ننطلق في جولتنا ببلدية عين البنيان أن معظم الأحياء لا تتوفر على أماكن للراحة والجلوس، إضافة إلى المساحات الخضراء التي تعد الغائب الأبرز عنها رغم تواجد مساحات شاغرة داخل الأحياء إلا أنها غير مهيّأة. وتحوز البلدية على عدة حدائق عمومية على غرار حديقتي 20 أوت ووسط المدينة، إلا أن الإهمال قد طالها، ضف إلى ذلك فإن مصالح البلدية لم تدرج مشروعا جديا لإعادة تهيئتها مما حولها إلى مكان مهجور ترمى به النفايات على الرغم من تواجدها في الواجهة وعدم بعدها عن مقر البلدية سوى بحوالي 200 متر، ليطرح السكان التساؤل حول مصير أموال إعادة التهيئة الغائبة عن حدائقهم وغياب شبه تام للمساحات الخضراء، ويبقى مشروع خلق الفضاءات الخضراء بعيد المنال وقد لا يتحقق، رغم أنه عامل ضروري في إستراتيجية بناء المدن، التي يجب أن تتوفر فيها أجواء بيئية ملائمة. واد اوشايح بباش جراح.. "حصار" أبدي في دائرة النفايات والإسمنت على غرار عدد من الأحياء والبلديات بالجزائر العاصمة، نجد منطقة واد أوشايح بباش جراح، التي اجتاحتها المساحات الإسمنتية بحيث قضت على جمالية المنطقة، يحدث هذا في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات السكان بضرورة إنشاء حدائق وفضاءات للتسلية والترفيه لقضاء أوقات فراغهم، بعيدا عن روتين الحياة اليومية، لاسيما الأطفال والشيوخ، فمن يقصد المنطقة سرعان ما يلاحظ أنها تعيش ما يشبه "الحصار الأبدي" داخل دائرة من النفايات والبيوت القصديرية، التي تجعل كل من يقصدها ينفر من رؤيتها وباتت تسودها فوضى عارمة غطت محيطها من كل جانب. حسين داي.."غزو" مستمر للرقعة الإسمنتية تعرف بلدية حسين داي غزوا مستمرا للرقعة الإسمنتية، على حساب المساحات الخضراء ومرافق الترفيه التي تبقى في آخر أولويات المسؤولين المحليين، ولم يعد هؤلاء يفكرون، على ما يبدو، في إتباع إستراتيجية تضمن إحداث التوازن بين مرافق التسلية والبناءات الكثيرة على مستوى المنطقة، نظرا لانعدام الوعاء العقاري الكفيل بانجاز مثل هذه المشاريع المهمة، لاسيما أمام التزايد المستمر لعدد سكان البلدية خلال العشرية الأخيرة، وهذا ما جعل السكان يستغربون عدم تدخل السلطات البلدية لوضع حد للفوضى العمرانية وعدم توفر الأحياء على مساحة واحدة للترفيه. متنزه "تيتو" بباب الزوار يخيف قاصديه يبدو أن حالة الإهمال واللامبالاة ليست السمة الوحيدة التي سيطرت على العديد من المساحات الخضراء ببلديات العاصمة، وإنما باتت هذه الأخيرة تشهد سمة أخرى لصيقة بها تتعلق أساسا بغياب الأمن. وفي هذا الشأن يشتكي زوار متنزه باب الزوار من كثرة الاعتداءات التي أصبحت تزعجهم وتثير مخاوفهم، واستفحلت ظاهرة السرقة بشكل ملفت للانتباه بعد أن انتشرت على مستواه جماعات من الشباب المنحرف الذي وجد ضالته فيه أمام غياب الأمن، ليقوم هؤلاء بالسطو على الوافدين إليه ليضحى المتنزه مسرحا مفتوحا على السرقات والاعتداءات المتكررة من حين لآخر. براقي.. جهود معتبرة ولكن.. عملت السلطات المحلية ومصالح بلدية براقي على أن يكون لكل فئة من سكان المنطقة، كبارها وصغارها، نصيبها الوافر من التنمية المحلية، قصد منح الأمل وإعادة البهجة والراحة والطمأنينة للجميع، بعد أحداث العشرية السوداء، ومن ذلك الاهتمام الكبير بإعادة الوجه اللائق بالمنطقة وبعث الحيوية فيها من خلال توفير مساحات خضراء. وفي هذا الصدد تمت تهيئة كل مداخل البلدية بالمساحات الخضراء، على غرار حي بن طلحة، فضلا عن وجود نافورة تتوسط الشارع الرئيسي للحي، لتغدو المنطقة قطعة تعكس جمال الطبيعة، ليضفي ذلك رونقا في المكان منقطع النظير. مساحات خضراء تتحول إلى أسواق فوضوية ومن الظواهر السلبية التي قلصت المساحات الخضراء داخل الوحدات السكنية والمدن، انتشار البطالة التي حولت الكثير من المساحات الخضراء إلى أسواق فوضوية للشباب العاطلين عن العمل. وتتحول هذه الأراضي في المساء إلى مكب كبير لمختلف بقايا والمخلفات النتجة عن تداول السلع من كرتون وأكياس بلاستيكية وغيرها من الفضلات التي لا يمكن تصورها. ومن الواجب التذكير أن سلبية المواطن ساهمت في ضياع مساحات جميلة بعد أن تحولت إلى أسواق فوضوية واسعة، ويكفي زيارة قصيرة لمختلف بلدياتنا، خاصة في العاصمة، لنقف على حجم الضرر الذي لحق بالمساحات الخضراء والتي تحولت مع مرور الزمن إلى أسواق فوضوية كبيرة في غياب تام لأية رقابة، ومع تعاقب السنوات على هذه الظواهر الشاذة صارت البلديات تجد صعوبة في إخراج هؤلاء الباعة من هذه الأسواق، بعدما صاروا يحققون أرباحا طائلة، من دون أن يتعاملوا مع مصالح الضرائب. وقد حدث هذا في إحدى بلديات شرق العاصمة، أين تحولت مساحات خضراء هامة إلى روضة للأطفال ونصفها الآخر تحول إلى سوق فوضوي، ورغم انجاز البلدية لسوق جديد يجمع التجار الفوضويين إلا أن هؤلاء رفضوا الرحيل عن هذه المساحات متحججين بالسنوات الطوال التي قضوها في هذا المكان الذي تحول إلى سوق فوضوي كبير، ورغم مرور عدة أشهر ما تزال البلدية عاجزة عن ترحيلهم. ومثل هذه القضية لا تنطبق على هذه البلدية فقط، بل هي حالة واحدة من عدة حالات ضاعت فيها المساحات الخضراء تحت ضغط الأسواق الفوضوية وشبان لم يجدوا فرصة في العمل فتحولوا إلى تجار فوضويين على مساحات خضراء واسعة. ثقافة المساحات الخضراء غائبة رغم تشييد الآلاف من الوحدات السكنية في السنوات الأخيرة، إلا أن الملاحظ هو أن الأماكن المخصصة للمساحات الخضراء، إما تختفي بعدما تحولت إلى غير الغرض الذي خصصت له أو تهمل وتصير مجرد رقعة ترابية بور، والأكثر مأساوية من هذا هو أن تتحول مساحات خضراء واسعة داخل الأحياء إلى مكبات للنفايات والفضلات ومراتع للحشرات والجرذان. والأمر هنا لا يتعلق بإهمال السلطات المحلية فقط بل يرجع بالأساس إلى غياب ثقافة المساحات الخضراء لدى الكثير من المواطنين الجزائريين، الذين لا يعطون الأهمية الأزمة لهذا العنصر الحيوي في مدنهم أو أحيائهم. وما يدل على ذلك أن الحملات التطوعية في الأحياء السكنية شبه غائبة أو مغيبة، وحتى لجان الأحياء لا تلعب دورها في المحافظة على جمالية هذه الفضاءات السكنية وحتى صحة ساكنيها. وقد شوهدت مساحات خضراء جميلة شيدتها الدولة لتكون ملاذا ترفيهيا للسكان لكن سرعان ما يحولها الأطفال إلى ملاعب، متلفين النباتات والزهور ومختلف أنواع وعناصر الغطاء النباتي الأخضر دون رادع سواء من السلطات أو السكان، ومع الوقت تتحول هذه الأراضي الخضراء إلى أراضي جرداء. الجماعات المحلية تتخلى عن دورها الأغلبية الساحقة من البلديات بولاية الجزائر لم تقم بعملها لضمان والحفاظ على توازن البيئة الحضرية، ما جعل المدن معرضة بشكل كبير للتلوث واختلال التوازن البيئي، لأسباب عديدة يمكن أن نميز فيها بين أسباب ذاتية وأخرى موضوعية. وتعود الأسباب الذاتية إلى غياب الوعي البيئي لدى عامة السكان وكذلك الكثير من المنتخبين، وهو ما يعكسه غياب لجان متخصصة في الحفاظ على البيئة لدى أغلب المجالس المنتخبة، واقتصار عملها على العلاقات الانتخابية في الجزائر، التي تجعل المنتخبين يهتمون بتلبية الحاجات المباشرة للسكان. أما العوامل الموضوعية، فتكون بوجود فراغ قانوني فيما يخص حماية البيئة والبساط الأخضر، ما جعل عتبة التلوث المسموح بها غير محددة فضلا عن غياب العقار في العديد من البلديات، التي اكتسحها الاسمنت وغيرها من العوامل التي يصعب حصرها. ويبقى الاهتمام بالمساحات الخضراء ضرورة تقتضيها الحتمية التنموية والأخلاقية والاجتماعية، وهذا راجع لدور المساحات الخضراء في إفادة المجتمع، إذ تمثل فضاء للاتصال والحوار بين أفراد المجتمع وأداة لتمتين العلاقات الاجتماعية. لذا يجب ضبط الاهتمام وإسناده وبصورة قانونية للمجالس البلدية بخصوص هذا المجال، لكن ذلك غير كاف لغياب ثقافة بيئية عند الكثير من القائمين على هذه المجالس، وعدم التزام مؤسسات المجتمع المدني بدورها التوعوي، ما جعل حتى ما هو موجود من مساحات خضراء بالجزائر يتعرض للإهمال واللامبالاة.