كمن يبحث عن ضحكته، كمن يهدي بصمته للماء والسؤال، قرّرت، وأخيرا، الشاعرة نهلة كابري أن تقطع الطريق بأوّل وردة بعنوان "أقرأ للرّيح، أكتب لي" عن منشورات دار "ميم"، وفيها تجمع نصوصا عالية من النسغ والروح، وستوقع بذلك حضورا مميزا بفعاليات الصالون الدولي للكتاب 2018، فيما سنحتفي نحن بالشّعر. زينة بن سعيد نهلة كابري، اسم آخر يشعّ في سماء الشعر الجزائري، مختلف، حرّ ودون قيود. شاعرة بروح طفولية، كما كلّ الأزهار والأرواح الكونية، هشّة بما يقتضيه الشعر واللغة، بينما تبدو عالية وواثقة وهي تمارس الصمت والخريف والأعماق، تكتبُ بشغف وهدوء على صفحتها الرسمية "فيسبوك" وكأنه لا وجود لأحد فقط هي والمرآة، من هناك أطلّت بكلّ قلبها، ومن هناك تبعث الأمل والفرح الذي يصنعه شعرها مهما بدا مغلّفا بالصدمات. يكتب الشاعر الطيب لسلوس في تقديمه للكتاب "من العزلة المثمرة في أشد أوجهها تبرما تعود نهلة كابري بحملتها البرية لتؤكد لنا أن الكلام خارج النمط غير متاح إلا في المغامرة ب الكينونة ذاتها. معددة حيل مشاهدتها العسيرة لطائر الشعر وهو ينفلت عن أي بصيرة تضعه بين قوسيها، تعود نهلة كابري ..منهكة.. وعاصفة بمشاهداتها: "لن أقول «أنا» حتى لا يعلق العالم بي"، هكذا تريدنا أن نتلقاها متجردين من المسبق والمتوقع، ونزولا عند هذا الطلب الودي أتراجع عن تلوين أي زاوية نظر تاركا للقارئ معادلة الدخول إلى تجربة لابد من الاحتفاء بها اليوم وغدا...". تقول نهلة أن تجربتها في الشعر بدأت كممارسة ذهنية بعيدة عن الآخر وحتى عن الكتابة كموضوع، ف"الشعر" بالنسبة لها نواة كينونة ستأتي وفيما يظل دائما تلك الهاوية من الفراغ المهتاج الذي يجلس بقربها، وتضيف بأنها بدأت مع الشعر دون خطة معتقِدة أنه مشكلتها الخاصة، بالتالي فهي ترسل -حسبها- هذه المشكلة إلى العالم عبر هذا الكتاب، وتقول أيضا "كان الموت هو الطريقة الفذة لإنقاذ دواخلي من الفتور والتراخي الوجودي؛ لكن الموت حدث عظيم وكثير جدا على استسلامي؛ حينها ولدت رغبتي بالكتابة حرة ومتشعبة ومتواصلة... ولدت داخل ذهن الصمت مستأنسة بألعاب الفراغ والوحدة لكن صدمة الضوء قطعت أنفاسهاً؛ وكانت هذه هي علتها التي لم تشفى منها..". من باب العزلة، أقدمت على أول خطوة لها، ما تكتبه على صفحتها يجعل القارىء -لها- كشاعرة تتبنى الحرية في الكتابة، يحس بتلك الكتابة التي جعلتها تتجاوز كل ما هو مربع وما يلمّح للأغلال. لا تقول شيئا خارج سياق اللغة، كأنها اختارت هذه الطريقة لتخبرنا أنها موجودة رغم الوحدة. كأن تقول من خلال شذراتها "لا تأخذ كل شيء أيها الضوء؛ أترك ما مر بي من شعر وعتمة"، "الشعر، هذه النزوة العالية.. هذه الصّخرة أرميها ولا تتفتّت"، "إذا كانت هناك مناعة للشعر، فأنا مدينة له بهذا الخجل والنقصان"، "يولد الشاعر بلا ذريعة، وفي فمه ملعقة الندم"، "أعطيتك قلبي أيها الشعر؛ خذه إلى حانتك البعيدة أنبش عزلته وأخبره بلسان بارد، أنه لا يتنفس ولا يطير.."، "يهرب الشعر من نفسه أيضا؛ لكنني أسمع جرسه في غبار الغبار"، "كنت قديمة جدا، ثم أيقظني الشعر"، "أريد أن أفك هذا الرباط؛ أهرع إلى أعلى الشعر، وأصرخ أيها البركان!! لماذا عشت حياتك بداخلي دون أن تخبرني من أنت ؟". الكتابة في مفهوم نهلة هي لإنقاذ الجسد، فتقول "الكتابة خيال وجموح وخجل متواتر؛ ثم هي الآن هذا الكذب المشاع أيضا". وعن الوحدة "لم أختر هذه الوحدة؛ أنجرف معها برغبة حقيقية لذلك لا أشعر بالحقد. يأسي خاص جدا، يأسي جبل مكلل بي أنا شجره وعشبه وجحوره، كل ماء صعد إليه يجري الآن في عيوني". من الهامش أتت نهلة حيث كانت تكتب من خلف ستار، ولم تتوقع أن مشكلتها الخاصة ستكون مشكلة القارئ أيضا، فأطلّت لنكتشف معها لغتها التي صنعت تواضعها وفرديتها، فالشاعر الحقيقي هو الذي يؤمن بتوفر المكان للجميع مهما بلغ علوّه، وهو (الشاعر) الذي يرى الشعر في داخل كل شخص بعيدا عن اللغة، بدون ازدراء وبدون فوقية، الكائنات اللغوية كثيرة جدا لكنها تبقى محجوزة في الشكل، بينما نهلة كسرته وأثبتت أن الشعر روح قبل أن يكون نصّا. يُذكر أن "أقرأ للرّيح، أكتب لي" للشاعرة نهلة كابري سيكون حاضرا بجناح دار "ميم" للنشر التي تديرها الكاتبة والمترجمة آسيا علي موسى، خلال فعاليات الصالون الدولي للكتاب الذي سيجري بقصر المعارض الصنوبر البحري من 30 أكتوبر إلى 10 نوفمبر 2018. نهلة، شاعرة السهل الممتنع، الشذرات الخفيفة، العميقة والقوية، هاهي الآن تلفّ العالم شعرا، لتقول أنها، ومن عزلتها ومن الرّيح إلى الورق، جمعت عملها الأول لتخلق مشكلة وتبتسم.