لم يكن من سبيل أمام طفولتنا المتعبة بعزلة النسيان، وهشاشة الحياة مع عذوبتها، في تلك البيئة الصحراوية المرمية خلف كثبان الرمال، دون أدنى وصل بأسباب التمدن والحضارة؛سوى أن نلتمس من بيئتنا القصورية، ألعابا بسيطة تقتل وقتنا، وتزرع فينا قليلا من البهجة المسروقة، وإن كنا في الحقيقة، قد ورثنا تلك الألعاب، على من سبقونا، وأضفنا لها تحسينات وبهارات، تتوافق مع مرحلتنا المستجدّة،وبالرغم من بساطة تلك الألعاب الصبيانية؛ غير أننا كنا قنوعين بها أشدّ ما يقنع الظمآن في صحراء (تَنزْروفَتْ) بشربة ماء. أخال نفسي صبيا بتمائمه، أسبح في عباءة بيضاء، تضوّرت بخرائط مطموسة من دسم الطعام، أخرج من فم قصبتنا زمن الضحى، فأجد أندادي من صبيان جهة القصبة، يلعبون لعبة الغميضة في ديار (الطايحين)، فيعصب أحدنا عينيه بخرقة قماش بالية مغبرّة، ونطوف حوله في محاولة الإمساك بأحدنا، لا أتحدّث عن كمية الغبار الذي يزكم أنوفنا، ويبلغ مداه لباسنا،ووجوهنا، وشعر رأسنا، حتى إذا ما فرغنا من الغميضة، آنسنا جانبا قصيا من رحبة ديار (الطايحين)، في مكان صلب جهة دار (أبّاحاج)، عند مدخل زقاق (الدرب)، وحفرنا حفرة صغيرة بأرض (التّافزة) ولعبنا لعبة (الحفيرة)، وهي أن نأتي بنوى التمر، ويضع كل واحد منا قدرا معلوما منه، في تلك الحفرة، ونظل نتناوب على رمي الحجر فيها، ليكون ما يصعد منها، بمثابة الفوز به. قد أتسلّل من بيتنا زمن القيلولة، فأنعطف على ساحة أولاد إبراهيم قرب ساقية (حاجّة مينة)، حيث أجد الرفاق يلعبون لعبة (الطّابَعْ)، وهي لعبة بسيطة على أية حال، تعلمنا منها أشياء كثيرة، كالتركيز أثناء الرمي، تتكون من علبتين فارغتين من علب المصبرات، توضع إحداهما على الأخرى، على بعد معلوم، ويختار كل منا وضع حجره بالنسبة لذلك المَعْلَم، وتكون البداية دائما بالأبعد، فإذا ضرب العلبة العلوية، يُحسب له عدد الأقدام، وتكون الغلبة في الأخير لمن يفوز بعدد كبير من الأقدام، أما من خانه التسديد، فيكون بمثابة المعاقب، الذي يتعاور الرفاق على كركرته، وبالرغم ما يلحق المهزوم من نكاية وعذاب؛ غير أن ذلك كان مقبولا، لكونه من قواعد اللّعبة وأعرافها الموروثة. ثمة لعبة أخرى، غاية في الطرافة، تلك التي كنا نطلق عليها (جلاّد ملاّك)، وهي أن نسويّ أوراقا صغيرة، فيها جلاّد، ملاّك، الوزير، السرّاق.. بحيث تخلط الأوراق بشكل عشوائي، فتؤخذ الأوراق من لدن اللاّعبين الأربعة، بعدها يكشف الرفاق الذين كان من نصيبهم الجلاّد والوزير، وعلى الوزير الكشف عن السرّاق، والحكم عليه بعدد الجلدات، وإذا أخطأ الوزير، يكون العقاب بالجلد عليه، وليس مستبعدا، أن يقوم أحد الرفاق خلسة، بتعيين ورقة جلاّد في غفلة من الرفاق، إذ كثيرا ما اكتشفنا ذلك التلاعب، عندما يكون أحد الرفاق جلاّدا دائما، مما يدفعنا للشك والريبة، وإعادة قص الأوراق وكتابتها من جديد. كما أذكر لعبة أخرى، كنا نطلق عليها لعبة (أنْتيكْ أنْتيكْ)، وهي أن نرسم على الأرض مربعات، على مستويات ستّة، بحيث تكون الأولى زوجية، والثانية فردية، والثالثة زوجية، أما الرابعة والخامسة والسادسة، فتكون فردية، ويبدأ اللاّعب بالقفز فيها، بحيث يضع رجليه في الزوجية، ويقفز بالرجل الواحدة في الفردية، حتى إذا ما وصل للسادسة والأخيرة، حمل حجرا صغيرا، كنا نطلق عليه (الحَجَّة)، ورماه من الخلف في المربعات الزوجية، بحيث تصير تلك المربعة، التي وقع فيها حجره ملكا له، ولا يحق للاّعب الذي يأتي بعده أن يطأ قدمه فيها. لم يكن في زماننا كرات جلدية أو بلاستيكية، حتى وإن أدركناها في طفولتنا المتأخرة، غير أنه والحق يذكر، لم نجدها في الأولى، وقد آنسنا من كرة (أشَكّومْ) القيام بذلك الدور، وهي كرة ملفوفة من ليف النخيل الذي يدعى (لَفْدامْ)، بحيث يقطع كل لاعب كرناف نخلة مع جريدتها، ويسويها من شوكها وسعفها، ويلعب بها الكرة، وهي تشبه إلى حد كبير، تلك المستعملة في لعبة الغولف حاليا. كما لازلت أذكر لعبة طريفة أخرى، تسمّى (تيمَقْطَنْ)، وهي لعبة أرضية، بحيث نرسم على الرمل أربع حفرات عرضا، على ست حفرات طولا، ثم يمسك اللاّعب بيد زميله، في ستر محجوب، ويمر على الحفرات، مردّدا (تيقْطَنْ صاحبي، لطرافْلاغرافْ، ولا ينقّز بين طراف، ياحمامة ياقورية، عيطي لولاد رقية، كلتهم ماقدربيا، هاد عليك يباكدي، يابوشدوق، يانفاخ العينين، تيم.. تيم..)، ونقطة الحسم في اللّعبة، أن يقرص اللاعب زميله في حفرة معينة، تكون هي المستهدفة، بغرض بيانها من الفريق الخصم. كما كنا نلتمس ألعابا أخرى ك(السرّابة)، وهي حلقة حديدية دائرية، نطوف بدورانها، ومن ألعابنا البسيطة كذلك، لعبة (الدواوير)، وذلك كأن نرسم دائرة صغيرة، في نعل بلاستيكي، ونقصها بشفرة حلاقة، ثم نغرز في وسطها عودا، وندوّره بأصابعنا، فنلهو بدوران ذلك الدوّار، غير بعيد عن هذا كنا نلعب كذلك بسيارات (الشّقْمونْ)، وهو الحديد البالي من علب المصبرات، فنصنع منه أشكال السيارات، وقد نصنع تلك السيارات وأشكالها من الطين الأحمر كذلك، دون أن أنسى لعبة (الوجواجة)، وهي لعبة غاية في البساطة، كأن نأخذ صفيحة واجهة علبة من العلب المصبرة، ونثقبها بمسمار، وندخل خيطا في ذلك الثقب المزدوج، ثم ندوّرها دورات متسارعة ومقصودة، بعدها نجد في دورانها العكسي، فرجة وانبساط.. هذه هي حدائق تسليتنا يا سادتي، التي كنا نلعب فيها، ورسومنا المتحرّكة التي كنا نتلهّى بها..