الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله و على آله و صحبه و من ولاه أما بعد: ظاهرة منتشرة على نطاق واسع ليس في بلادنا فقط بل في كل بلاد المسلمين، ولذلك وجب التنبه على هذه الظاهرة، وبيان حكمها، ألا وهي ظاهرة التسول، والذي يقصد به سؤال الناس بعض المال، ونقول ظاهرة منتشرة على نطاق واسع لأنها فعلاً كذلك؛ فلا يخلو مكان من وجودها، فإذا ما ذهبت الإنسان إلى المرافق الحكومية وجد المتسولين على أبوابها، وإذا ما كانت تمشي بالشوارع رأيتهم على أرصفتها خاصة عند إشارات المرور أو في الممهلات، وإذا ما ذهبت إلى السوق رأيتهم يتجولون على باعتها ومحلاتها،وإذا ما ذهبت إلى المستشفيات رأيتهم قابعون عند مداخلها، وإذا ما ذهبت إلى بيوت الله، فحدث ولا حرج؛ إذ لن تجد مسجداً في بلد من بلاد المسلمين إلا وترى متسولاً على الأقل قد وقف على بابه أو بين يدي المصلين، أما في بعض المساجد الكبيرة فقد ترى أكثر من واحد، كلهم يسأل الناس بصوت عال، دون مراعاة لآداب المساجد، وآداب الكلام، بل ربما رأيت النساء عقب الصلوات يدخلن إلى المسجد يسألن الناس، حتى أصبح التسول عند كثير من هؤلاء وظيفة يعتاشون بها، وذلك لأنه وجدوا أنه ببذل ماء وجهه، وقلة حيائه، وسؤاله الناس، يجمعون أموالا كثيرة، ربما لا يقدر على جمعها بعمل آخر، وترتب على هذا أن أصبح الناس لا يميزون بين من هو مستحق محتاج للمال فيساعدونه، وبين من هو كاذب محتال فيعرضوا عنه،هذا عن كثرة المتسولين، وأما عن أساليبهم فقد تعددت وتنوعت، فلربما ربط أحدهم قربة أو قارورة ماء بخيط في حقويه ومن تحت ثيابه، ووضع بها محلولاً أحمر، ثم قام يسأل الناس، ويخبرهم بأنه مصاب بمرض السرطان ونحوه مما يثير شفقة الناس و يحرك عواطفهم، وهذا ما حصل فعلاً في مسجد من مساجد بلاد المسلمين،فقد جاء أحد المتسولين إلى المسجد وقد ربط قربة -علبة ماء- بخيط في حقويه ومن تحت ثيابه،ووضع فيها محلولاً أحمر، وفي أثناء الصلاة صلّى جالساً، ولمّا انتهى من الصلاة وكانت حينها صلاة العصر، وقف يسأل المصلين مظهراً لتلك القربة وأنه مصاب بمرض السرطان، فما كان من الناس إلا أن تأثروا تأثراً بليغاً،وأبدوا تعاطفهم معه، وجمعوا له مبلغاً كبيراً من المال، بل أراد أحد الفضلاء أن يتمم الإحسان فيذهب به إلى مسجد مجاور لعله يجمع ما يعالج به مرضه، ولما وصلا إلى المسجد في صلاة المغرب، ما كان من ذلك المصاب بمرض السرطان المزيف إلا أن أعاد تشغيل ذلك الشريط الذي شنف به آذان المساكين في المسجد الأول حذو القذّة بالقذّة،ولكنها كانت الفضيحة والفاجعة بالنسبة لذلك الدعي، فقد تقدم إليه أحد المصلين وكان طبيبا فسأله عن الأعراض وما يشعر به فأدرك أن هذا الدعي كذابا فالسرطان لا يسبب مثل هذا النوع من القرح التي تنزف دما، فحذر المصلين منه من أمثاله الخداعين. إن قصص المسولين تكاد تملأ الآفاق حتى كأني بهؤلاء لهم مدارس ومعاهد يتعلمون فيها ويتخرجون منها فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. و هناك من قصص المتسولين ما هو شر منها وأفضع وأكثر كذباً ونصباً واحتيالاً، ولكن ذكرنا هذه القصة هنا لأمور منها: أولا : أن كثيراً من المتسولين يعتمدون على كذبة، يستعينون بما يجمعون من أموال في المعاصي والفجور وقد تكلم العلماء عن حكم السؤال، فمنهم من حرمه، ومنهم من كرهه، ومنهم من أجازه بشروط، وفي حالة معينة، وذلك لورود أدلة تدل على منعه، وأدلة تدل أخرى توحي بجوازه في حالات معينة وبشروط محددة. قال ابن تيمية رحمه الله : أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلاّ الضرورة فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحداً كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو هم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز. ثانيا: أن وجود مثل هذه الحالات من الكذب والدجل والتدليس على عباد الله تجعل الكثير من أهل الإنفاق يحجم عن النفقة والتصدق على الفقراء والسائلين وبالتالي يحرم من الصدقة والعطف صنف من الناس قد قسم الله لهم ذلك فقال تعالى: (والسَّآئِلِينَ) ثالثا: ما تكسه مثل هذه الحوادث من تدني مستوى الأخلاق في المجتمع، وهي أخلاق وصفات لا تمت إلى أخلاقنا وإسلامنا بأي صلة أما الأدلة في ذم التسول فهي في هذا الباب كثيرة ومنها :عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أوخموشاً أوكدوحاً في وجهه " قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب ". وصح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن الله عز وجل يكره ذلك فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إن الله - عز وجل - حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ". وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قد ضم الجنة لمن لم يسأل الناس شيئاً ؛ فعن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة " قلت: أنا. قال:« لا تسأل الناس شيئا " قال: فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه.