لا أعتبر هذا المقال نقدا، أو تقويما لكتاباتنا، إنما مجرد أسئلة، أو ما يشبه الملاحظات التي تروم التنبيه لبعض الممارسات الأدبية، أكثر من أي شيء آخر. ما الذي تريد أن تقوله الجملة السردية عندما تغرق في التفاصيل الكثيرة، في النعوت والتشبيهات، أو في توضيح ما لا يحتاج إلى ذلك أصلا. هل الكاتب ملزم بأن يقول كلّ شيء؟ وما دور القارئ إن قال النص كلّ شيء ولم يترك فراغات قابلة للملء من قبل المتلقي المنبه الذي بمقدور قراءة المضمرات وما لا تقوله الكلمات؟ ربما كان الأمر بحاجة إلى عينات تمثيلية دالة على ذلك: يقول الكاتب: كان البطل يمشي على قدميه، ويقول أيضا في مقطوعة أخرى: كانت الدموع تسيل من عينيه وتنزل على خديه، وكان يمسح الدموع بمنديل أصفر ناعم منحته له جدته، قبل أن يفتك بها وباء غريب من سنتين وتدفن في مقبرة منسية، هكذا احتفظ به كذكرى وخبأه في صندوق خلف الباب الخشبي للكوخ القديم. نحن لا نحتاج في العينة الأولى إلى أي تخصيص يذكر، ذلك أن فعل المشي يستدعي بالضرورة استعمال الرجلين كحالة طبيعية متفق عليها، ومن ثمّ تغدو الإضافة غير ضرورية للمعنى، وضبطا معجميا لا قيمة له، إن لم يصبح حشوا يسيء للاقتصاد السردي الذي يقوم على التلميح، وليس على الغلو في التحديدات التي تشرح قضايا مشروحة سلفا. أمّا في العينة الثانية فنحن لا نحتاج، في واقع الأمر، سوى إلى نواة دلالية واحدة يحددها الفعل: تسيل، كجوهر موجه، أو كنتيجة لفعل سابق، أو لحالة ما، في حين تكون التفاصيل الأخرى إضافات متحولة على محور الاختيار، أي أنها تدخل في باب المتغيرات المستمرة، إن نحن استثمرنا وظائف فلاديمير بروب وفق خياراتنا، أو في حالة عودتنا إلى الدرس اللساني. سيصبح الفعل مسح نتيجة منطقية للفعل تسيل، أي فعلا غير ضروري للحكاية من حيث إنه مضمّن قبلا، أو متوقع الحدوث. إضافة إلى ذلك فإن البطل قد يمسح الدموع بكمّ القميص مثلا، أو بيده، أو بمنديل أزرق أو برتقالي، أو بمنديل ورقي اشتراه من المدينة، وكان مخبأ في مكتبه الفاخر، وهكذا دواليك. لذلك تغدو المفردات الأخرى: الجدة، الوباء، الصندوق، الباب، قابلة للحذف أو التغيير إن لم تكن ذات علاقة سببية وطيدة بالمتن، كأن يجمعها خيط دلالي ما يتعذر تجاوزه بالنظر إلى قيمته في الربط بين الجمل والكلمات. هذه الممكنات التحويلية قائمة، ومن السهل أن يكون هناك لعب استبدالي مستمر، ولا حدود له من الناحية الجملية والمعجمية، ومن حيث النعوت التي يمكن أن تسهم في إضاءة المادة السردية. أمّا السؤال الذي يمكن طرحه فيتمثل في قيمة هذه الوحدات إن لم تكن لها وظائف عينية ثابتة؟ ما وظيفة منديل أصفر، ثمّ ناعم، وما وظيفة وحدات من نوع الباب الخشبي والكوخ القديم إن لم نجد لها علاقة منطقية بالسابق واللاحق، أو بالسلسلة الجملية والدلالية برمتها؟ أمر آخر: إنّ قولنا كانت الدموع تسيل من عينيه هو نوع من التأكيد الذي لا ضرورة له، لا فنية ولا جمالية ولا دلالية. إنه تحديد بديهي يشبه، إلى حد ما، قولنا: وتنزل على خديه، ذلك أنّ هذه الإضافة مجرد تمطيط للجملة والمشهد، مع أنها لا تكشف عن جديد أو إضافة، ولا تقدم للمتلقي أية معرفة من حيث إنها تؤكد على معلومة لا تتطلب التأكيد. إنّ هذا الاستعمال المعياري قريب من قولنا: ذبح البقرة بالسكين. لا قيمة للوسيلة ها هنا، ما عدا إن كانت استثناء، أو أمرا مفارقا للمعيار القائم، وللعادة، كأن نقول مثلا: ذبح البقرة بالمنشار، أو بملعقة. سيحمل هذا الاستعمال الجديد كلّ قيمته الممكنة تأسيسا على جانبه المفارق لأنه يلفت انتباه القارئ، ليس إلى الفعل، إنما إلى الأداة التي ستبدو غريبة على ثقافته، وغير متداولة في فعل مماثل، ومن ثمّ نشأة السؤال الضروري الذي تثيره النصوص، على تفاوتها. يمكننا، من أجل توضيح أكثر، أن نضيف إلى ما تقدم جملة من نوع: "كان المطر ينزل من السماء ويسقط على الأرض محدثا موسيقى عجيبة". يبدو الشطر الثاني مهمّا، أمّا الأول، رغم صحته، فلا يشدّ القارئ لأنه نقل إملائي لمشهد طبيعي يحصل باستمرار: المطر لا ينزل من الأرض ويسقط على السماء. لقد اهتم الاستعمال الأول بمعاودة منطقية، ومكررة، وليست ذات تأثير من حيث إنها بديهية. الأمر ذاته بالنسبة للنعوت التي لا تأتي بإضافة، بقدر ما تكون تعليمية، لا قيمة لها، أو دلالة مكررة، وهي كثيرة جدا في منجزنا القصصي والروائي، وفي الشعر أيضا: الثلج أبيض اللون، الجليد بارد، والدم أحمر، فراشة جميلة، عسل حلو وحنظل مرّ، إضافة إلى التشبيهات الميتة التي تقتات من الاستعمال المتواتر: غبي كالحمار وماكر كالثعلب. نصوصنا السردية مكدسة بهذه الاستعمالات التي لا تؤسس على الاجتهاد، بقدر ما تبني على الحفظ الآلي، سواء عن وعي أو عن غير وعي. لذا تأتي مساءلة النصوص ضرورية، ليس للتقليل من شأنها، إنما لمراجعة طرائقنا في التعامل مع التفصيل، مع النعت والتشبيه، وذلك من اجل جملة سردية أكثر قوة، وأكثر قدرة على إثارة المتلقي.