تعتبر الصين إحدى القوى العظمى التي تمثل بإمكانيتها الاقتصادية تحديا كبيرا للولايات المتحدةالأمريكية في جميع أنحاء العالم .و هي بهذا الثقل الاستراتيجي تكمل جيدا القدرات العسكرية الروسية لمساعدة القطبين الروسي الأمريكي على بناء النظام العالمي المتعدد الأقطاب . إن الرؤية المشتركة لدى الصينوروسيا لمختلف القضايا و المشاكل العالمية سعيهما معا إلى وضع حد للأحادية القطبية , هي الأرضية لشراكتهما الاستراتيجية المدعمة بتجاورهما الجغرافي , و هما بذلك يعتبران هدفا للسياسة الأمريكية المعادية , التي تسعى إلى زعزعة استقرارهما بجميع الوسائل المباشرة كالعقوبات الأحادية الجانب أو بوكلائها في أوروبا و بحر الصين و الشرق الأوسط . و تحاول الولاياتالمتحدةالأمريكية احتواء الصين و حصرها في حيزها الجغرافي مثلما فعلت مع الاتحاد السوفييتي خلال حقبة الحرب الباردة , من خلال عرقلة توسعها الاقتصادي و تحجيم دورها في التجارة العالمية و من خلال اتفاقيات التبادل الحر الثنائي و متعدد الأطراف , و من خلال المنظمات و التكتلات الاقتصادية التي تخضع لنفوذها . و لذا فإن بروز روسيا و الصين كقوتين منافستين للولايات المتحدةالأمريكية اقتصاديا و عسكريا , ليس كافيا لاعتبار زمن الأحادية القطبية قد ولى , لأن استراتيجية امريكا للهيمنة على الاقتصاد العالمي ما زالت سارية المفعول , و هي تركز نيرانها على المناطق الرخوة لمناطق نفوذ كلتا القوتين المنافستين , آسيا الوسطى بالنسبة لروسيا , و دول رابطة جنوب شرق آسيا "آسيان" بالنسبة للصين , و خاصة منها لاوس و تايلاند و ميانمار لارتباطها بمشروع خط السكك الحديدية فائقة السرعة لبعث طريق الحرير الصيني , و كذا مشروع مد أنابيب نقل بترول وغاز الشرق الأوسط إلى الصين عبر ميانمار . و نظرا للتهديد الذي يمثله هذان المشروعان الاستراتيجيان للنفوذ الاقتصادي الأمريكي في منطقة دول "أسيان" , فإن بعض هذه الدول قد تعرف محاولات زعزعة استقرارها بإثارة نزاعات بالوكالة , قصد تقويض الاستراتيجية الاقتصادية للصين أو تأخير تجسيدها إلى أقصى الحدود . سعي أمريكي لمحاصرة المواقع الناشئة و باستعراض الخريطة الجيوستراتيجية للعالم , يمكن ملاحظة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تحرص على أن يكون لها موطن قدم في جميع المنظمات و التكتلات السياسية والاقتصادية و الأمنية . فهي تفرض و تملي على الاتحاد الأوروبي مواقف و سياسات تخدم مصالحها بالدرجة الأولى , و تكبل الدول الأعضاء في مختلف هذه الهيئات الاقتصادية باتفاقيات التبادل الحر الثنائية أو متعددة الأطراف , بحيث أضحت هذه الاتفاقيات تحاصر الجهات الأربع تقريبا لمنطقة "أوراسيا" , أي الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الأسياوي الذي يضم روسيا و بلاروسيا و كازاخستان و أرمينيا و قرغيستان و دول أخرى من آسيا الوسطى مرشحة للعضوية في الاتحاد. فالخطط الأمريكية جعلت الاتحاد الأوروبي في مواجهة غرب أوراسيا، ودول مجلس التعاون الخليجي في جنوب غرب أوراسيا، ورابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، في جنوب شرق أوراسيا، والولاياتالمتحدة , كوريا الجنوبية واليابان في شمال أوراسيا, بينما يبقى جنوب المنطقة خارج الخطة مؤقتا , ريثما تُسْتَقطب الهند بعرض لا يقاوم للانضمام إلى هذا النسيج الاقتصادي الأحادي القطب , بعد استكمال و دخول جميع اتفاقيات الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي و عبر المحيط الهادئ بين أمريكا و شركائها حيز التنفيذ .علما أن المفاوضات بخصوص هذه الاتفاقيات تعرف انسدادا جراء ضغوط أمريكا لفرض شروط عارضها الاتحاد الأوروبي و كندا على وجه الخصوص , و لاسيما تلك التي تمنح الأفضلية للشركات الأمريكية على حساب الحكومات الوطنية , و بخصوص تسويق المواد الغذائية المعدلة جينيا ... و من هنا , فإن أكبر تهديد للعلاقات الاقتصادية متعددة الأقطاب مع منظمة "آسيان" يأتي مباشرة من معاهدات الشراكة عبر الأطلسي و عبر المحيط الهادي , و شروطها المجحفة التي تضغط بها الولاياتالمتحدةالأمريكية لوقف الشراكات التجارية القائمة أو التي تخطط الدول غير المتحالفة معها (روسياوالصين) لتعزيزها مع كل عضو في الكتلة. و هو مايدفع إلى اعتبار هذه المعاهدات إعلانا مسبقا للحرب الاقتصادية. لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية تتخذ خطوات نشطة لإقامة سوق صغيرة من شأنها أن تقع في المقام الأول تحت سيطرتها. وتدرك واشنطن تماما إن موسكو تسعى لإقامة محور لآسيا و من ثَم حاجتها إلى تنويع اقتصادها ودمج الصين إذا ما أرادت استغلال إمكانياتها الاقتصادية بكامل طاقتها. وفيما يتعلق ببكين، تعرف الولاياتالمتحدةالأمريكية ,بأن العوائق التي تعترض العلاقات الاقتصادية الثنائية بين الصين و"أسيان" يمكن أن تعطل طريق الحرير الجديد الذي تأمل الصين انجازه في السنوات القادمة. وترغب الولاياتالمتحدة في استخدام هيمنتها الاقتصادية على كل عضو من أعضاء رابطة دول جنوب شرقي آسيا من خلال معاهدات الشراكة الاقتصادية والاستثمارية عبر الأطلسي و عبر المحيط الهادئ من أجل إخافتهم و إبعادهم عن هذه المراكز متعددة الأقطاب, و إبقائهم بقوة تحت مظلة أحادية القطب. وهناك أسباب ملموسة لاتخاذ هذا التهديد الاستراتيجي على محمل الجد.فالأزمة الأوكرانية , و إبادة الأقلية المسلمة في ميانمار , و قضية البرنامج النووي الإيراني , و حروب الشرق الأوسط ...كلها قضايا تندرج ضمن هذا التهديد و ما خفي أعظم . حيرة بروكسل بين الغرب و الشرق وخلاصة الوضع لمختلف القوى العظمى , أنها مازالت في مرحلة خلط الأوراق , في انتظار اتضاح الرؤية , ولاسيما بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إبقائه رهن هيمنتها بعد تقييده بمعاهدات الشراكة التجارية و الاستثمارية عبر الأطلسي اقتصاديا , و رهن استراتيجية حلف الناتو أمنيا ,بينما يحاول بعض أعضائه التحرر من هذه التبعية للولايات المتحدةالأمريكية اقتصاديا بعقد اتفاقيات التبادل الحر مع كيانات اقتصادية أخرى و خاصة الصين و الاتحاد الروسي , و أمنيا سعي أوروبا إلى إنشاء قوة أمنية مستقلة تخلصها من المن الأمريكي في هذا المجال و مطالب ترامب الفجة بدفع ثمن حمايتها لها . و لا شك أن بروكسل - طال الزمن أو قصر- ستكتشف ما اكتشفه الكثير قبلها, بأن مستقبل الاقتصاد العالمي أصبح في الشرق و لم يعد في الغرب . و لو ترك الخيار لأروبا لاختارت الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأورواسيوي , و هو الخيار الذي يتيح الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب . أما إذا بقيت أوروبا حبيسة الهيمنة الأمريكية , فإن هذه الأخيرة ستحاصر الصين في منطقتها بالتمكين لوكلائها في الكيانات الاقتصادية مثل اليابان و كوريا الجنوبية , و بعرقلة تجسيد مشروع طريق الحرير الجديد , و بإثارة الحروب الهجينة المفتعلة , و هو ما تفعله مع الاتحاد الروسي بعد تعافيه من أعراض انهيار الاتحاد السوفييتي سابقا من خلال العقوبات و من خلال الحروب بالوكالة في أوكرانيا و في الشرق الأوسط .و هو ما يعيد العالم من جديد إلى الثنائية القطبية يقودها غربيا أمريكا و أتباعها , و شرقا روسيا و الصين و إيران و حلفائهم .و هي ثنائية قطبية كرسها الخطاب السنوي للرئيس الروسي أمام البرلمان حول الوضع في الاتحاد الروسي ببعث الحرب الباردة عندما هدد بصريح العبارة , أن روسيا سترد بقوة على أي اعتداء يطالها أو يطال حلفائها و لو بواسطة الصواريخ البالستية تقليدية كانت أو غير تقليدية .