هل ستموت الفنون قريبا بعد أن تغير كل شيء في عالمنا الافتراضي الذي أصبح فيه التقتيل يشبه اللعب الافتراضية التي تعود الأحداث وحتى الكبار على ممارستها على الشاشات التي تضيق وتتسع بحسب الحاجة، سوى أن قتلى القصف والنار، على الأرض، حقيقة. الطيار الحربي الحقيقي يمارس هوايته ميدانيا بشكل حي. والأعداء لم يعودوا أشكال افتراضية ولكن بشرا مرعوبين من أطنان القنابل التي تنزل على رؤوسهم وبيوتهم. يتم تداول هذا كثيرا في الأوساط الثقافية العربية والعالمية بصيغ كثيرة ومختلفة، ولكنها في مجملها تؤدي إلى نفس التصور وهي أن الأدب اليوم خاصة، والفنون على العموم، في ظل عالم افتراضي، لم يعد يأبه كثيرا باللغة والأحاسيس العميقة، وبالنظم التي ابتدعها سابقا، أصبحوا في خطر حقيقي، ومهددين بالانقراض. من يقرأ؟، من يبيع لوحاته كما تعود أن يفعل؟ الكثير من الفضاءات الفنية والأدبية تغلق. ويبدو أن النهاية مرتبطة فقط بعامل الوقت لا أكثر بعد أن تم تضييق مساحات الأدب والفنون المختلفة، وحصرها بشكل مخيف بينما اتسع العالم الافتراضي لدرجة ابتلاع كل شيء، بعد أن كان الأدب، والرواية تحديدا، ومعه بقية الفنون الجميلة، على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين سادة المشهد الثقافي. مساحة قراء الأدب مثلا، أصبحت أيضا شديدة الضيق. نسبة كبيرة من المستهلكين للأدب يجدون حياتهم الروحية في الهواتف الذكية التي توفر كل شيء. كل ما يحتاجونه بما في ذلك الحاجات الثقافية الخاصة. حتى الكتاب الإلكتروني، والكتاب الصوتي، المعول عليهما منافسة السهولة الاستهلاكية، من خلال نفس الوسائط، لم يحلا المشكلة من حيث وضع حد للنزيف القرائي. الكتاب الإلكتروني الذي كان يفترض أن يباع بقوة لرمزية سعره بالقياس للكتاب الورقي، ليست له حتى اليوم سوقا حقيقية. ما يزال تجربة محدودة الفائدة، إن لم نقل فاشلة من أصلها، لأن الألعاب وكل ما تنتجه المؤسسات العاملة في الحقل الافتراضي في الصين وأمريكا واليابان بالخصوص، المتنافسة على المستهلك، تستثمر حيث يوجد استهلاك كبير، فأغرقت الأسواق بالتطبيقات السهلة المرتبطة بالألعاب المختلفة، والمرتبطة بالحاجات المباشرة للفرد. تظل التطبيقات الخاصة بالعالم الأدبي، قليلة لأنها غير مفيدة تجاريا. لهذا فإشكالية أن الأدب في خطر ليست فانتازما شخصية أو جماعية، ولكنها حقيقة يبررها واقع موضوعي، في ديناميكية مستمرة. ويبدو نداء تودوروف الذي بطنه في كتابه النقدي المميز: الأدب في خطر، جديرا بالاهتمام. فقد أعلن بشكل صريح، قبل سنوات قليلة، عن إخفاق الناقد في مهمته الأساسية التي هي الدفع بالقارئ نحو النص الإبداعي، الروائي بالخصوص، ونحو مساحات الأدب الجديدة التي وفرتها التطبيقات الأكاديمية الحديثة، اعتمادا على البنيويات المختلفة والسميائيات والتفكيكيات التي وظفت الجهد النقدي للتوغل عميقا في النصوص الأدبية أو المقاربة لها. لكن الذي حدث في المحصلة هو أن النص انغلق على المقولات الجاهزة، وبدل أن يشيَ بغناه الداخلي، تحول إلى أشكال وبيانات تبعد القارئ أكثر مما تقربه من النص. بينما يحتاج القارئ إلى غوايات أدبية حقيقة وليس إلى أدوات ثقيلة ومنفرة. شكل هذا الكتاب الصغير، أو الصرخة النقدية، الأدب في خطر، علامة فارقة بالنسبة للنقد الجديد وفي كيفيات التعامل مع النص الأدبي الذي كان يحتاج، ربما، إلى مقاربات أقل تعقيدا وأكثر إغواء للقارئ. نتج عن ذلك موجة نقدية سلكت طرقا أخرى نحو النص الإبداعي غير تلك التي حصرته في دائرة مغلقة باسم الأدبية والشعرية المفرطة. وحاولت أن تخفف من المجال الأكاديمي أكثر، ففتحت القراءة على أبوابها الثقافية الأكثر اتساعا، وليس النقد الثقافي إلا أحد تجلياتها. من هؤلاء الناقدة والإعلامية الكندية كاترين فواير ليجي Catherine Voyer-Léger التي تقول لدرء المخاطر المحدقة بالنقد، لأن هذا الأخير أصبح أيضا في خطر بعد أن سرق منه الإعلام السريع والاستهلاكي الميال إلى البيست سيلر، كل جهوده: هناك تغير في الذهنيات. وليس عبثا أن أسمي كتابي: مهنة الناقد Le Métier de critique الأمر يعني بأن هناك شيئا فعلا متخصصا لا يمكن لأي كان القيام به. من هنا يمكننا تجاوز الثنائية: أحب/ لا أحب. نحتاج إلى إعادة تقييم مهنة الناقد وتخصصه. ويحتاج النقاد أيضا إلى مساحات أوسع غير تلك المتاحة لهم اليوم. عمل الكثير من النقاد ضمن هذا الجهد الجمعي لإنقاذ الأدب، وتوسيع مجالات النقد الأدبي، ضمن هذه الدائرة الثقافية والمعرفية التي تهدف إلى تدمير قلاع النقد المغلقة أكثر والزجّ بالقراءة نحو دينامية الحياة والوجود الإنسانيين، دون أن يخسر النقد الجديد جوهر مقولاته التي تأسس عليها. لكن الافتراضية الطاغية على كل مناحي الحياة، عقدت من مشروع الإنقاذ، في عالم ميال إلى السهولة واستهلاك الصورة. أصبحت التطبيقات الخاصة بالأدب والكتاب الإلكتروني والمسموع، أو حتى المصور والمليء بالروابط، إلا وسيلة للمقاومة لتأخير لحظة أفول الأدب، ومعه الكثير من الفنون. لا نعرف اليوم بدقة، هل سيبقى شيء اسمه الأدب والفن بالصورة التي عرفناها عنهما، في السنوات القريبة القادمة؟ كل العلامات المحيطة لا تنبئ بخير مطلقا، وكأن الموت أصبح أكثر من يقين.