مدنٌ مدنٌ مدن..!!! أين المدينة المفرد ؟ مدن ليس إلاّ. أضحت تتشابه كلها في سحنتها. كأن مظهرها السْتانْدار حرّفته أصابعُ ومباضع طبيب تجميل أو تشويه. مدن كْلوناج. ناطحات سحاب بمطاعم ومقاهٍ دوارة في أعلى طوابقها. يلفها الدوار والسحاب. تطل على طرقات تشبه سيولا من حديد. مدن الزحام يطبق على أنفاسها ضجيج احتكاك الحديد بالحديد. أبحث عن مدينة مختلفة. طبيعية ملامحها. تذكّر بعناصر الفيلسوف إمبيدوكليس الأربعة . بالماء والهواء والتراب والنار. مدينة لا تشبه لعبة قتال ألكتروني. مخبرها يوحي بأن العالم ليس (صُنِع في ..ماد ئين ). مدينة تذكر بالانفجار العظيم منذ خمس عشرة مليار سنة . وبتشكل الكوكب من أربعة ونصف مليار عام، بترابه ومائه وهوائه وناره وأسماكه وغنائه وأهوائه. تذكّر أن الحياة ليست مجرد «عفسة»و يوتوب. سيصفر عامل محطة السكك. باريس تتراجع جهة ضجيجها، بينما القطار يئن صعودا نحو الشمال. لربما هو يدندن أغنية لإديث بياف في اندفاعه المجنون نحو نورمانديا. أقلعت الطائرة بي باكرا من الجزائر. هو يوم أطول من ساعاته، لكن السفر حالة غير استثنائية. الترحال قدر الإنسان المعاصر عموما. قدر المثقف المنتمي إلى العالم السفلي من البحر المتوسط ، فلا هو في حالة حرب ولا هو في حالة سلم، السفر بيته المؤثث بممتلكاته العتيقة، لعل أهمها وقته. كمن يحاول أن يجري، بينما ركبتاه تغطسان في الماء. ماء البحر قدره البطء و الخطو إلى الوراء.. هذا الصباح في مقهى محطة « سان لازار» الكبرى للقطارات، أنهيتُ كتاب «اغتصاب المخيال» لأميناتا تراوري. كتاب جريء وشجاع مكتوب بغضب مُرّ يعدد تكرار الإجهاضات التي تعانيها أحلام شعوب إفريقيا، الواقعة بين كماشة ثراء الأرض، وفقر أهلها تحت سحابة سوداء منذرة بشرّ يدعى العولمة ولست أدري ماذا .! آه إفريقيا الغنية الفقيرة. إفريقيا القيد الثقيل المربوط بكعب الكرة الأرضية. حكمة إفريقيا أجهضها الغرب منذ خمسة قرون. الحكمة النابعة من فلسفة ثقافاتها القديمة، قدم دبيب الإنسان فوقها: «كل شيء، متصل، كل شيء حي، كل شيء مستقل» . فإذا لم يعد الغرب في حاجة إلى العبيد، فهو في حاجة ماسة إلى انقراضهم. الخبز نادر والسلاح وافر. فليقتتلوا، وليخلوا سبيل الأرض الولود. يلتحق بعض المتأخرين والعشاق بالقطار، بعد الصفارة التقليدية تغلق الأبواب أوتوماتيكيا. تتحرك الأيدي والقلوب بتلويحة الوداع، ونتحرك نحو الشمال.. نحو البلاد النورماندية. أحمل بين يدي كتاب ثرفانتيس «دون كيخوته دي لامانشا»، بلغته الأصلية الإسبانية. إنها المرة الثانية أقع في غواية قراءته. - ألأن للغة أسرارها ومواطن الفتنة فيها، أم هي فرادة الكتاب؟ أم هو إرث الأندلس الثقيل!؟ من العبث أن تنام، أو أن تطالع، أو تتلهى بشيء ما وأنت في طريقك إلى نورمانديا بالقطار، وفي وضح النهار. من قال إن الوقت هو الوقت نفسه، ومن قال إن الساعة بستين دقيقة هي هي، في مكتب رمادي بمؤسسة حكومية عربية، بوزارة مخشبة، يابسة تمنحها ما استطعت من دمك وعصارة فكرك لكنها تظل كاذبة الحمل، تقرفك ببهرجتها ونتانتها فتكتب استقالتك خشية أن يتسرب إلى عروقك الدود. نعم، على العالم أن يضبط ساعاته على نهار آخر، يلعلع الحلم فيه مثلما يلعلع قطار في أصقاع الدنيا تحت المطر، يدفع نحو جانبيه وخلفه الأشجار وبيوتا مثل اللُّعب والأنهار والأبقار والسيول والخيول والحقول حتى بلاد نورمانديا. ليس الوقتُ الوقتَ، والوقت ليْسَه. الآن، والقطار يتسلق صدر الدنيا، لماذا أفكر في مالك حداد، وأندري مالرو، وابن مقلة؟ لماذا أفكر في سعدي يوسف وتباغتني الدمعة؟ لماذا جاء في هذا الزمن القبيح؟ لماذا كان؟ ولم يكن السياب أكثر منه حظا. ثم لماذا أفكر في العشرات من أصدقائي الشعراء العرب مغربا ومشرقا؟ لماذا أتوا في غير وقتهم هذا، المقيح، القبيح، العقيم، المهزلة، المزبلة؟ ما الذي كان في إمكانهم فعله ولو عدّوا بالمئات؟ ماذا تفيد مئات أو ألوف الزهور النادرة العطرة في مزبلة بهذا الحجم؟ المثقف العربي حالة من الإحباط : تمزق، حروب باردة حامية، مواجهة الترويج للقبح والكذب، خرق الدساتير، احتقار العقل. ليس للمثقف العربي صوت خارج الجوقة، فإذا ما احتفل به السلطان فهو الدليل على أنه ذليل، وإذا ما ركب رأسه قليلا قُطع. كلما شممت رائحة تفاؤل ضئيل ازداد الحكام فردانية وتجبرا، وازدادت الشعوب صمتا ينذر بما لا تحمد عقباه. صديقاي الكاتبة والفنانة التشكيلية دانييل وزوجها الطبيب أنْدري في انتظاري. إنهما مثقفان نبيهان من اليسار، مناصران شرسان لثورات التحرر في العالم. دائما أوقّت وصولي باكرا إلى نورمانديا لأذهب للتو لمشاهدة بحر المانش. أحب هذا اليَمّ، إنه صديقي الحميم أنا ابنة البحر الأبيض المتوسط. إنها الساعة الخامسة. الصمت مطبق، ومنه تندلع أصوات أكاد أسمعها، أصوات مجندين خلال الحرب العالمية الثانية، دفاعا عن حق الآخرين في الحرية. أتوا من البلدان المغاربية ومن أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وبولونيا و جنسيات أخرى، وقفوا في وجه الرايش الثالث والنازية. من بينهم شاب وسيم جدا. شقيق جدتي. اسمه «ابراهَم مَسلَام»، مجند هو الآخر، أيقظ طفولتي بحكاياتهم الخارقة عن الحرب العالمية الثانية، وعن الإنزال وعملية نبتون والصور بالأبيض والأسود لوجوه مجروحة لشباب مجندين خلفهم حكايات وحكايات. يبتسمون ليهزموا الحزن والألم وتنتصر الإنسانية والحياة. يتبع