لأمر ما يعتبر قيادات في الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية أن تهديد الصين لبلادهم أكبر من تهديد روسيا , حيث لا يخفي مسؤولون أمريكيون في أجهزة الاستخبارات و وزارة الخارجية , مخاوفهم من أن تزيح الصين بلادهم و تصبح هي أكبر قوة مهيمنة في العالم . و يمكن إدراج نصيحة الثعلب العجوز هنري كيسنجر للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا * بالعمل مع روسيا من أجل احتواء الصين *, ضمن هذه الهواجس . ويعتقد أصحاب هذا الموقف أن الصين تقود ضد بلادهم حربا باردة * باستخدام أساليب اقتصادية وعسكرية، واللجوء إلى وسائل قانونية وغير قانونية، بغرض إضعاف الخصم مع تجنب الحرب*. و نقلت وكالة أسوشيتد برس عن المدير المساعد لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية لشرق آسيا ؛ مايكل كولينز قوله:* أن أفكار الرئيس الصيني شي جين بينغ حول التنمية العالمية تم إدراجها في الدستور الصيني *. و هي أفكار قادت المسؤول الأمريكي إلى الاستنتاج بأن :* التهديد الصيني هو أخطر تحد بين جميع التحديات التي تواجهها الولاياتالمتحدة الآن* ... كونه تهديد يشمل جميع المجالات و يتجاوز ما في إمكان الروس فعله. وينتقد جناح في الاستخبارات الأمريكية , الاستراتيجية الأمنية لبلادهم خلال العقدين الماضيين , كونها انشغلت بتوجيه ضرباتها إلى جبهات ثانوية مثل افغانستان و العراق و ليبيا و تركت القوى المنافسة العسكرية الاقتصادية و العلمية الرئيسية تستعيد أنفاسها و قوتها بلا ضغوط , مما سمح لروسيا استعادة مكانتها الدولية ,و مكن الهند من أن تتطور نوويا و صاروخيا واقتصاديا, و ساعد أوروبا على تعزيز وحدتها و قدراتها الاقتصادية و المالية حتى أصبح اليورو منافسا للدولار على الصعيد العالمي , و أتاح للصين الفرصة لتطوير قدراتها النووية و الصاروخية و التقنية و الاقتصادية حتى أصبحت حاليا دولة منافسة على أكثر من صعيد بحيث يعترف مكتب التحقيقات الفيديرالي *أف بي آي* بعجزه *عن منع الطلبة الصينيين من الاستحواذ على آخر مبتكرات الجامعات الأمريكية*. و أضحت قواعد الأنترنيت تمليها الصين و أوروبا و ليس أمريكا لينقلب السحر على الساحر ,و تصبح شركات الانترنيت التي كانت تقاطع العمل قواعد الأنترنيت تمليها الصين و أوروبا في الصين بدافع إيديولوجي هي التي تتسابق لدخول السوق الصينية, مثل شركة فيسبوك التي حصلت على رخصة الدخول و بدفتر شروط يحمي الخصوصية الصينية منذ الوهلة الأولى, و ليس بعد عقود من الاستغلال و الانتهاك لهذه الحقوق كما حدث في بقية دول العالم. وكانت الصين من بين 5 دول قدمت منذ 3 سنوات مدونة لقواعد السلوك بشأن أمن المعلومات لكن أمريكا و دول غربية حالت دون تمرير المشروع في اللجنة التكنولوجية التابعة للأمم المتحدة. ولذا اتجهت الصين إلى إنشاء ائتلاف الدول المعارضة لبرنامج الغرب في مجال الإنترنيت و من منطلق أن الانترنيت يخضع مبدئيا للشركات الكبيرة المصنعة للمعدات التي تخدمه, فقد استطاعت الصين امتلاك قاعدة في شبكات الكمبيوتر في الأسواق الناشئة, وتبرعت بأجهزة كمبيوتر لحكومات 30 دولة عبر العالم . عندما تحاول حصر شركاء الصين اقتصاديا وسياسيا , ستعترضك دون شك بعض العقبات نظرا لتعددهم وانتشارهم في كامل بقاع المعمورة. وخلافا للاعتقاد السائد لدى الكثير, فإن الشركاء الأساسيين لبكين هم بالدرجة الأولى الولاياتالمتحدة الإمريكية و اليابان والاتحاد الأوروبي, وسيحتفظون بهذه الصفة , لضرورات اقتصادية واستراتيجية في نفس الوقت , كون هذه البلدان تشكل الأسواق الخارجية الرئيسية لحوالي ثلاثة أرباع الصادرات الصينية , فضلا عن كونها مصدر ضروري للاستثمارات الخارجية و للتكنولوجيات الحديثة . ولكن إلى جانب هؤلاء الشركاء, تحاول بكين قدر المستطاع الاندماج اقتصاديا و سياسيا في محيطها الإقليمي والجهوي معتمدة منذ بداية القرن الحالي سياسية حسن الجوار التي أتت أكلها , و تركزت خاصة في العلاقات مع الدول العشر لمجموعة* آسيان*, التي تبحث الصين منذ 2002 سبل التحييد ولو مؤقتا لخلافاتها الإقليمية حول بحر الصين وكذا نزاع الكوريتين (المجمد مؤقتا), وتمثل هذه الأطراف حوالي 500 مليار دولار من المبادلات التجارية . بعد ذلك سارعت الصين إلى توسيع شراكتها لتشمل جيرانها على مستوى القارة الأسيوية , مثل روسيا التي أبرمت معها صفقة غير مسبوقة لتموينها بالغاز على مدى ثلاث عقود كاملة , و مثل الدول المستقلة بآسيا الوسطى و الهند التي لا غنى عنها لإنجاح مشروع طريق الحرير الجديد وحزامه الاقتصادي . الحاجة إلى قوة تعيد التوازن للعلاقات الدولية ولأن الشهية تأتي مع الأكل, فإن الدبلوماسية الصينية اجتهدت لتطوير علاقات متينة مع أنحاء أخرى من العالم , حيث كان حضورها معدوما أو محتشما, مثل إفريقيا و إمريكا اللاتينية حيث تتجه الصين لاستثمار بها نحو 250 مليار دولار، معظمها في مشاريع البنية التحتية. و مثل الشرق الأوسط و غيرها من المناطق التي تتوفر بها حصة معتبرة من النفط والمواد الأولية و الخشب و المواد الفلاحية التي يفتقر إليها اقتصادها . والأكيد أن هذا النشاط الدبلوماسي المكثف لا تنحصر أهدافه في الجانب التجاري , و إنما يمتد ليشمل الجانبين السياسي و الاستراتيجي , من خلال ترسيخ مكانة الصين كقوة عظمى و معها صورة للبلد الوحيد الذي يمكنه فعلا إحداث توازن في العلاقات الدولية على كافة الأصعدة بما فيها الإيديولوجية و الثقافية , و بالتالي الحد من الهيمنة الأمريكية في مثل هذه المجالات. وبالمختصر المفيد فإن العديد من خبراء مراكز البحوث الاستراتيجية في العالم يتوقعون أن تصبح الصين خلال 10 أو 15 سنة , الاقتصاد الأول في العالم , وليس فقط بمقياس القوة الشرائية , إنما بمعيار تحويل الناتج المحلي الإجمالي إلى عملة , و انعكاس ذلك على النفوذ السياسي و القوة العسكرية .غير أن الصين تطمئن العالم بسياستها المسالمة المختلفة عن سياسة القوى الاستعمارية في القرنين و ال19و ال20 , و أنها لن تتوسع إقليميا و تلنزم بالأنظمة القائمة ... و لكن حتى في حالة احترام الصين لهذه التعهدات , فمن يضمن أن القوى المنافسة سترضى بترك ريادتها و هيمنتها على العالم لقوة منافسة عن طيب خاطر و بكل روح دبلوماسية كما توجبه الأعراف السياسية؟ خاصة مع وجود شخصية مثل دونالد ترامب في البيت الأبيض و سياسته الخارقة لجميع الأعراف؟و رفضه إقامة نظام دولي جديد يقوم على التوازن بين القوى التقليدية و القوى الناشئة كلا بحسب مساهمتها في إجمالي الناتج المحلي العالمي . حيث تطالب دول مجموعة البريكس المتكونة من الصين و روسيا و الهند و البرازيل و جنوب إفريقيا بإصلاحات للنظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه أمريكا عبر التحكم في آليات التصويت على مستوى البنك العالمي و صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة العالمية , و هي الاليات التي لا تمنح دول البريكس سوى 14 في المائة من الأصوات رغم أنها تمثل 30 في المائة من حجم الاقتصاد الدولي ؟ ولذا لا يخشى المراقبون من الهيمنة الصينية على الاقتصاد العالمي بقدر خشيتهم من استمرار هيمنة القوى التقليدية بدون وجه حق و عبر ممارسة سياسة الأمر الواقع .