أحيانا وأنا أتابع بعض الكتابات يتملكني شعور قلق بمحاولة القبض على لحظات وكيفيات الكتابة عند بعض الكتّاب، بل ليس بعضهم، يسكنني شوقٌ إلى معرفة أشكال العلاقة مع الكتابة، العادات اللصيقة ببعض الكتاب والتي لا يكادون يستغنون عنها أثناء ممارسة اللعب مع البياض، لأنّها تبدو كما لو كانت تمثل سقف الإلهام الماطر الذي بدون تربة ذلك الشكل لا يؤتي أكله. الكتابة نوع من الحياة الذي يمارسه من ابتلي بحالاتها، فهي ليست فقط المتنفّس للكاتب كي لا ينفجر من داخله، إنّها أيضا انفجار في وجه العبث الذي يلف الواقع، والفرح الذي يمعن أحيانا في إبكاء الناس، كونهم يظنّون أنّ الثبات هو المستقر الأخير للمعيش ولا ألوان أخرى سوف تزيّن لوحة العثور على أوكسجين الصّباح، فبين الأحرف والسطور تسكن الحياة بدلالاتها ورموزها وتأويلاتها المفعمة بسر التعدّد الذي يجعل من الكتابة طاقية إخفاء تظهر لدى كل من لامست يداه، المسحوق السحري للدلالة الذي كلما نثر على وجه الكتابة ارتدت مفضوحة ومعراة سوى من لبوس القدرة على التخفي ثانية. ليس صحيحا أنّ الموت يصاحب الكتابة، بمعنى أن موت الكاتب ليس إعلانا قطعيا بموت الكتابة، ليس كنص ولكن كاستمرار توقيع على البياض، لأنّ القلم يظلّ عالقا في وجه الحياة، يكشف عن تمظهراتها في لون الحبر والخطوط العازفة لأنغام الكلمات والحروف، فلو أنّنا دخلنا إلى مكتب أو مكتبة أحدهم لوجدنا أنّ القلم الذي كان يكتب به يقرفص على خشبة المكتب ينتظر يدا تحرّره من شكل الكتابة العتيق والانطلاق في تجربة جديدة، لأنّه طالما استقرّ على حاله فهو يديم وجه الكاتب المعلن في سجل الوفاة كراحل، وهذا في حدّ ذاته انتصار للكاتب، لكن أهم انتصار أنّ القلم يخلد في أيد متعدّدة تنتج متخيّل اليد التي أمسكت ذات زمن قلم اللحظة وخطّت أفكار الحياة في أزمنة متعدّدة منتجة للحياة ذاتها، فهل نتذكر أقلام الكتاب؟ أم أنّنا نحيلها إلى المتحف، وهي لذلك رافضة لأنّه يجري في عروقها نوع من الحياة يحرّكها الحبر. الأقلام ليست شيئا عابرا في حياة الكتابة، إنّها تسكن جيب السترة الداخلي، يتفقدها الكاتب بين الفينة والأخرى، يجرّبها أحيانا في توقيعات الصكوك البريدية، وينتابه سؤال مصير القلم في عصر الكومبيوتر، ثم ما تلبث الكتابة أن تعود على أي شيء يصادف يد الكاتب، توقّع خربشاته عليها مستذكرة رائحة الحبر وهو يملأ بياض الصّفحات، فيشعر الكاتب وكأنّه يحفظ بياض وجهه وهو يعود صوب مياه الكتابة، شاعرا بغربته وهو يرى استغراب المواجهين له الذين تحضن أياديهم لوحات الكترونية وهواتف ذكية تسجّل كل شيء وتقوم بعمليات خارقة ومدهشة، وكأنّها تزاحم القلم حتى في غربته ومحاولاته الصادّة لانزياحات أكيدة نحو هامش النسيان. الكتابة لا تحاول فقط أن تقول شيئا عن طريق الكلمات، إنّها عادات عامرة بالإنسان، عميقة بتفاصيل تجعل منها علاقة وطيدة الصّلة بسرور الكاتب، تلك تفاصيل بسيطة، كاعتماد أرهان باموق على عادات الكُتّاب المختلفة *ومخاوفهم، وغرائبهم، بل وأفعالهم البسيطة (من قبيل الإصرار على ألا تخلو المائدة من القهوة)، لكنّها تحمل بصمة وجودية تندفق من عفوية لا تجري وديان الكتابة إلا بها، وإلا فما معنى فنجان قهوة يسامر الكلمات وهي تتسرّب من مخيال الكاتب نحو الهوامش البيضاء؟ يبقى الفنجان وفيّا لمخيال يد ترتعش محبّة وهي تمسك القلم وتبدأ مسافة الألف عالم التي تبدأ بحارة صغيرة من الأحرف المهملة في واقع الجمل الرّفيعة، وكلّما بردت القهوة في قعر الفنجان اشتدّت حرارة الكتابة مستمدّة وهجها من شفطات جنونية تمارس نشوتها بعنف على البقايا المثلجة في القعر، تستمد الكتابة نشوتها من صقيع المدافئ الحاضنة. إنّ الناقد الفرنسي سيرج دوبروفسكي يقول بأنّه ليس الوحيد الذي قال ب *التخييل الذاتي*، روسو أيضا ذكر في اعترافاته بأنّه ترك نفسه لتُحمل بالكتابة والتخييل، ولكن هذا لن يتمّ دون عُدّة قادرة على تكسير جرّة الحلم ليتحرّر مارد التحكّم في الكلمات، وأرهان باموق كان كلما استسلم للجلوس إلى طاولة الكتابة وصف حاله ب *ناعما بعبق الورق والقلم في غرفة ليس فيها سواي*، إنّ *سواي* هذه، أسقطت الورق والقلم، وجعلت باموق وحيدا أمام المتخيّل الذي يحملهما على أن يصيرا إلى العوامل الدّاخلة في إنتاج الحكاية، ويبدو لي أنّ هذا هو السّبب الذي جعل دوبروفسكي يطوّر فكرة *التخييل الذاتي* التي لا أجد لها مبرّرا نقديا للتناقض القائم بين فكرتي الحكي المتخيّل والسيرة الواقعية كما كل أشياء الكتابة المصاحبة للكاتب. كان كل من سارتر وتوماس مان يستعملان ورق الرّسم البياني، وهي لا شك حالة غريبة، لكنّها بالنّسبة لهما تفتح شهية المتخيّل على الكتابة، والصّورة التي تنطبع بداية هو تعاملهما مع خطوط الورق والمربّعات الصغيرة التي تشكل مقاسات، فالفكرة ربّما تتطوّر من مجرّد حالة ذهنية إلى معيار مضبوط القياسات، أي تنتقل من فضاء الذاتي إلى الموضوعي، لكن ما يمكن أن يجعل الرّابط بين ورقة الرّسم البياني والكتابة قائما هو حركة الذات الكاتبة في الواقع وبحثها الدّائم عن نظام التحوّل الذي يحكم المتخيّل في سيره نحو الواقع دون المطابقة معه لأنّه يختلف جذريا عن الواقع في تعدّده. تبقى الكتابة مرسما يسكنه فنّان دون فرشاة ولا ألوان، كلّ ما لديه خيال يراوده ليكون الفرشاة واللون، الكتابة هي هذه المسافة بين الواقع والمتخيّل، بين الحلم وعتبات العيون المنغلقة على عتمة اللاشيء، لكنّه لا شيء تتراقص فيه الخيالات غير المحدّدة، تضطر الفنّان/الكاتب إلى شق عينيه على فتحات صغيرة لتبصر شيئا ما، يتسرّب إلى عتمة اللاشيء فتبدو الأشكال من عدمها تصير إلى المعنى الذي يدير دفّته الكاتب من مقام التفاصيل العامرة بالمتخيّل.