كيف يمكن أن يتحول النّقد من مساحة منشورية إلى فضاء يتناول الأشياء كما لو كان النّاقد أو القارئ يقف على رصيف يكثر فيه المارة وهو منشغل بمدّ يده في فراغ المسافة بينه وبين مكتبة قديمة ليقتني جريدة وعندما يحاول أن يمسك بها تسقط منه فيحاول التقاطها لكنّه يجد رجله قد داست وردة رمى بها عاشق أدارت له حبيبته ظهرها وفضّلت مدفأة على كلام الحب المعسول. النص في وعي المبدع هو هذه المتاهة التي لا تجعل من الكلمات مجرّد تراكيب لفظية تؤدّي مهمّة ما، الكلمات تنطبع كصورة مشوّشة على شاشة الوعي، وعندما يحاول النّاقد أن يعيدها إلى نصابها، يمسّ بنظام الفوضى الجميل الذي يتذوّقه المبدع وهو يبني كيانات تخييلية تهدم العالم لتبني كوخا للعابرين إلى الأزقّة والحواري، والشّوارع الفاجرة التي تؤثّث مدن المسكونين برائحة الأيام التي لا يتأبّطون فيها سوى معنى وحيد للراهن، يتمثل في إدراكهم بأنهّم سوف يحل الغد ويصافحون الشّمس مع أوّل فنجان قهوة وجريدة التقطوها من قمامات الرّصيف وهم يحاولون السّير دون تماس الأكتف. إنّ المبدع لا يمكن أن ينام ويصبح على صفحة من بياض ينفث فيها سحر ترويض الخيال ليقول مخاض الجهات الخلفية للمدن والأماكن التي لم تتعثّر فيها خطواته، المساء ليس غرفة تسجن سريرا، المساء هو لحظة ارتماء الجسد على اللحاف واستسلام الأذن لسماع خشخشة الصّوف والتقاط الصّوت الدّقيق لاشتباك خيوط الكرات المنفوشة، تلك هي موسيقى النّوم التي تضرب مسمارا على جدار الهذيان لتعلق المخيّلة لوحة حلم الليلة المتعثرة في سكون الليل الذي أصبح هو الآخر ضجيجا، فمتى نام الرّوائي كي يسجّل حلم الحدث على بياض الورقة؟ بعيدا في الزاوية التي تترتّب فيها أوراق الرّواية، يحدث أن يكون الرّوائي هو جميع شخوصه يسجنهم كي يمارس نرجسيته على مسار الحدث، تستبد به النّشوة فيتكلم بدل شخوصه، إنّه يرسم مخطّطا لبيان ما، لا يمنح فرصة لكي تغادر الشّخصية سطرا لترى العالم من نافذة الورق، العالم هو أيضا ذلك الورق الذي يصير في لحظة ما جذرا عميقا لنبتة ليست زهرة وليست عشبا وليست شجرة، إنّها فقط لون وشكل أفصح عن نفسه في ذاكرة مهملة كهوية نباتية، ذلك هو هامش الخيال الذي يقاوم الواقع كي لا يسلب منه تعدّديته، الواقع فقير من حيث كونه واحدا، ولهذا تساءل جان بودريار صاحب أطروحة موت الواقع عن: «لم لا يمكن أن توجد عوالم واقعية بنفس عدد العوالم المتخيلة؟»، إنّه المستحيل الذي نريد تدجينه عبر فرض نمط معيّن للخيال حين نمسك بخناق الشّخوص الورقية ونقمع حرّيتها في التنقل بين الفراغات أو البياضات لتقول لاوعينا وخضوعنا للواقع في تجلياته القضبانية، الرواية بيان حرّية الحدث والمكان والزّمن الذي يرقّم شخوص الكتابة على جدار البياض.