الأمر الغريب الذي نتج عن الحراك الشعبي , يكمن في حالة الارتباك التي شملت كل مكونات الطيف السياسي في البلاد, بما فيها الشارع الذي أصبح رهينة سيل من المعلومات والأخبار المتناقضة التي تجعله متسرعا في حكمه على كل ما يرد عليه حتى قبل التثبت من مصدره وصحته . والأغرب أن يتم التشبث بهذه الأحكام المسبقة , وإدراجها ضمن محاولات الالتفاف على مطالب الحراك بتغيير النظام ؟و بهذا الشكل يتواصل مسلسل , الفعل «مسيرات الجمعات» ورد الفعل؛ الأحزاب, الإعلام والشخصيات والسلطات وأطراف أخرى, علما أن المسيرات أصبحت هي نفسها ردة فعل عما يصدر عن السلطة القائمة, أو ما يشاع أنه صادر عنها ؟؟؟ المشكلة تتلخص في سقف مطالب للحراك, فضفاض و متصاعد , لحاجة في نفس من يحركه في كواليس مواقع التواصل الاجتماعي «داخليا وخارجيا جزائريا وأجنبيا», و في استجابة متأخرة و جزئية لهذه المطالب من طرف السلطة القائمة , و بينهما بقية الأطراف التي تبحث عن دور أو موقع في - جزائر ما بعد بوتفليقة- فمنذ بداية الحراك في 22 فبراير الماضي, ظلت وسائل الإعلام تعالج نفس الموضوع و لو بصيغ مختلفة, حوارات, ندوات, لقاءات خاصة, تقارير, أعمدة, تحاليل, تحقيقات, تصريحات , وغير ذلك من قوالب التعبير الصحفي, التي تمحورت حول توقعات ذات الأجهزة الإعلامية و من ورائها الطيف الحزبي, حول مآل الحراك الشعبي, والحلول الممكنة للأزمة السياسية و الجهة أو الجهات التي تمسك بزمام السلطة وغيرها من التساؤلات المتداولة لدى الرأي العام . هذا الإصرار على الخوض في نفس الموضوع بكل هذه الكثافة, لا يهدف إلى الإجابة عن التساؤلات المطروحة فقط , وإنما يسعى كذلك إلى الإبقاء على تجند المواطنين لمواصلة حراكهم إلى حين الاستجابة لمطالبهم , وهي مطالب أكد أساتذة في القانون الدستوري , استضافتهم ذات وسائل الإعلام , بمناسبة الحراك , أن الدستور يتضمن خارطة الطريق للانتقال السلس للسلطة, ويحدد السلطات المخولة لتنفيذ هذا الانتقال, فضلا عن اشتمال الدستور على أحكام انتقالية تضمن استمرار السير العادي للمؤسسات الدستورية وفق القوانين السارية, وأن المطابقة مع محتوى الدستور الجديد تتم تدريجيا بحسب المواعيد القانونية ! التشكيك يستوطن ليس من تفسير لهذا الإلحاح على إثارة موضوع من يحكم من ؟ و التشكيك في مصدر السلطة الفعلية في البلاد , سوى الدفع نحو حلول غير دستورية حتى لا نقول «حلولا شعبوية « تحت شعارات شعبية , فضلا عن أن استقالة الوزير الأول وتعيين حكومة جديدة بعض أعضائها من مؤيدي الحراك الشعبي , لم يكشف من بيده زمام السلطة , و إنما كشف أيضا الأطراف التي تشكك في مصدر السلطة ثم تتفاعل مع قراراتها سلبا أو إيجابا , لأنها تدرك أن هناك «سلطة فعلية» تبقى سارية المفعول حتى بعد زوال السلطة الدستورية بغض النظر عن سيرورة الحراك و مخرجاته . كما يبدو أن الاستمرار في مجاراة «مستجدات الأزمة «عبر قنوات و مصادر مجهولة , قد لقي هوى لدى معدي البرامج لبساطته و سهولة تناوله , إذ لا يحتاج إلى أي جهد أو تفكير , أو تنقيب في الأرشيف و مراجعة الدراسات و الأبحاث التي تدعم هذا الرأي أو ذاك , و تكفي تساؤلات ارتجالية و تسيير سيل من الجدل العقيم و التخمينات الفارغة , عمن يخلف من ؟, ومن يصلح للمرحلة القادمة أكثر من غيره ؟ و ... ومن حسن حظ معِدِّي هذه البرامح , و متابعيها من المواطنين , أن رئاسة الجمهورية , تذكرهم من حين لأخر أن سلطتها ما زالت قائمة إلى حين انتهاء العهدة الرئاسية أو استقالة الرئيس . و كان ذلك كافيا للتذكير , بأن غرس البذور في الملح لا ينتج سوى الخيبة إلى جانب الوقت و الجهد الضائعين . كما أن محاولات زرع البلبلة و القلق و الترقب بخصوص مختلف سلطات البلاد التي حددها الدستور و عدد صلاحيات كل منها و إلهائها عن مهامها الجوهرية في خدمة المواطن , و شغل الرأي العام بمثل هذه النقاشات المتكررة , يؤكد حاجة بعض وسائل الإعلام إلى مراجعة أولوياتها بالنظر إلى ما ينفع و يفيد المجتمع لا إلى ما يثيره فقط .