هل انتهى زمن النّقد و النّاقد وحلّ محلّه القارئ/ المتلقّي الرقمي بكلّ محمولاته وخلفياته المعرفية؟ أم أنّ دور الوسيط الذي يمارسه النّاقد لا يزال قائما في ظلّ هذه التحولات الكبرى للكتابة كمنجز إبداعي يعيش راهنهُ وواقعيتهُ من غير تحفّظ؟؟ ، ألا يحتاج النّاقد إلى تجديد أدواته، و التجرّد من «مواضعاته» ليواكب هذا التراكم الرّقمي المشهود في عصر أيقوني لا يعترف إلا بحركة الأصابع التي تضغط أزرار الإبحار والتفاعل و الكتابة؟ ..هل سنشهد موتة أخرى بعد «موت المؤلف» يكون عنوانها هذه المرّة «موت النّاقد»؟ لعلّ المتتبّع للمشهد الأدبي الرقمي يلمس بوضوح ذلك الموقف المشوب بنوع من التّحفّظ وهو ما يعتبره «آن كوكلان» مؤامرة صامتة بامتياز، و ليس» هناك في الواقع نقد فني قائم الذات في مجال الإبداع الرقمي»رغم وجود بعض الدراسات التي كسّرت حاجز التحفّظ وقدمت رؤى إيجابية تبشّر بعهد إبداعي جديد في ظلّ الحراك التكنولوجي المتسارع ، وهو ما يفرض على النّقد الأدبي البحث عن أدوات إجرائية جديدة و تكييف بعض النّظريات و المناهج «المرنة» مع المعطيات الحالية كنظرية التلقّي التي يمكن الإفادة منها وتوظيفها بشكل يتلاءم والمرحلة الجديدة لأن أيّ « تقدم في الإبداع الفني على النقد والجمهور معا أن يستوعبانه في راهنيته، ويجب عليهما أيضا أن يضبطا زمنهما على توقيت التيارات الفنية الطليعية في انتظار بزوغ جيل طلائعي قادم وبهذه الرؤيا تتأسس التقاليد البديلة حسب تعبير هارولد روزانبورغ..»، فهذه النّظرة الاستشرافية ليست وليدة اللّحظة وإنّما لها امتداد زمني واع بدورة الحياة الأدبية وتجدّدها،ومن ثمّة يُوضع النّقد الأدبي أمام مسؤوليته التاريخية والواقعية في الوقت نفسه، فلم يحدثْ أبدا وأنْ تخلّى النّقد عن دوره الإستيطيقي والوساطاتي بين المتن و المتلقّي، وإنّما كان شاهدا على ميلاد تجارب إبداعية راقية، فهل تراه مازال يعيش على وقع الصّدمة؟ صدمة الأدب و المتلقّي الرقمي؟ . إنّ المعطيات الرقمية الحالية تؤكّد بوضوح تلاشي «قداسة» العملية النّقدية بعد العلاقة «الحميمية» التي أصبحت تربط النّص الرقمي بمتلقّيه،حيثُ تمّ كسرُ الحدود الجغرافية والفوارق المعرفية، والتّخلّصمن «المقدّمات» البروتوكولية والقيود المنهجية التي فرضها النَّقد الكلاسيكي تحت دواعٍ معرفية /دراسية،إضافة إلى ما يشبه «القطيعة» الفنية التي ألقت بظلالها على النّقد الأدبي الذي بات في حاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى «التعايش» مع هذه التجربة الرقمية الجديدة و إرساء معالم نظرية نقدية جديدة تتأسسّ على»التقنية» بالدرجة الأولى، التقنية الرقمية بكلّ مَشمولاتها من برامج ةووسائط متعددة ومُمكنات و مؤثراث... وتضع في فرضياتها المدّ التكنولوجي الهائل والمتجدد في كلّ لحظة، فعندما « يستعمل الفنانون تقنية ما أكثر تعقيدا وحاسمة جدا في مجتمعات التلقي مثلما هو الشأن بالنسبة للرقمية فإنه يصير من غير المعقول أن يتجاهل أي ناقد أو خبير في الاستطيقا تفاصيل وأجزاء الصيرورة التكنولوجية التي استثمرها الفنانون..» ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا الأدب الجديد إبداعٌ خالصٌ، واقعيّ يشهد على عصره وزمانه-كما يقول الطاهر بن جلون- فلم «يسرق» أدواته ولا فتوحاتِه، وإنّما عبّرَ بصوت مسموع عن هواجسه و رغباته وطموحاته، و حلّق في سماوات المعنى مزاوجا بين اللغة كصورة، واللّغة كصوت، واللّغة كإشارة..وبين البرامج القرائية الإلكترونية و الوسائط الرقمية كَتيمةٍ عصرية بامتياز، كما أوجد مساحات واسعة للتفاعل بعيدا عن القراءات الأحادية « المتعالية» للنّقد الكلاسيكي المُطالب بضرورة سدّ الفجوة الرّاهنة والبحث عن بدائل فنّية في سياق مختلف تماما هذه المرّة، وهو ما يعني أنّه سيكون قارئا ضمن كوكبة من «المتلقّين» لاكتشاف «مُضمرات» النّصوص بأدوات تتفاعل مع»حيثيات النّص وتجيب على أسئلته المفتوحة على التأويل «مثال ذلك توظيف صورة رقمية دون غيرها، أو توظيف قيم لونية دون غيرها، السبب الذي يدعو المصمّم لعمل بنية تصميمية دون غيرها...والأهم هي مضمرات الفكرة لا سيما في الإرساليات البصرية التي تحاول أن توصل محتوى ما ، ليس بالضرورة فهمه من قبل عامة الناس...هنا يحضر الناقد الغرافيكي الذي يمكن أن يفكّك النّصوص ويستخرج مكنوناتها و ما لذي أرادت أن تقوله حاضرا و مستقبلا..وهنا على الناقد أن يعي أسباب التركيز على موضوع دون غيره...». إنّ الإجابة على أسئلة النّقد من الجدوى إلى اللاّجدوى في عصر الكتابة الرقمية تحتاج دراسة مستفيضة في هذا الشأن، تسلّطُ الضّوء على ما يمكن أن تقدّمه العملية النقدية برمّتها في ظلّ «الفجوة» التي لم تعد خافية بين المنجز الرقمي و المتابعة النّقدية، فجوة يمكن تفهّم ظروفها في بداية التحول إلى ما بعد الكتابة- خاصة و أنّ كلّ ظاهرة أدبية جديدة تثير ردود أفعال متباينة بين الرفض و القبول من ذلك ظهور الشّعر الحُرّ وقصيدة النّثر...- إلاّ أنّ استمرارها بشكل أو بآخر ينذر –بلاشك- بمرحلة مفصلية تحيل الممارسة النقدية على المتحف، وهو ما لم يحدثْ أبدا عبر مختلف أزمنة الكتابة حتى في أزمنة الضعف والانحطاط التي شهدها المنجز العالمي و العربي تحديدا، فقد كان النّقد ظلّ الإبداع وشريكهُ الذي لامحيدَ عنه بالرغم من أحوال هذه العلاقة التي تتميّز بالتوتر حينًا فيما عُرف بالمعارك الأدبية في كثير من المواقف؛ والمؤالفة والانسجام أحايين أخرى. وعليه فإنَّ «إعادة تحديد دور النقد الرقمي لا يمكن أجرأته إلا إذا اهتم بالإبداع الرقمي ..يصعب علينا تأسيس نظرية للنقد الرقمي من خلال حفنة من الكلمات ... لذا لم يكن هدفنا هنا هو وصف وتحديد الأدوار والأعباء الجديدة للنقد الرقمي لكن سؤالنا المحوري هو بأي شروط يمكن تحضيره وإعداد أدواته وأولوياته ومناهجه أو بالأحرى تأسيسه كنقد مختلف .وأعتقد أنه على النقد قبل كل شيء أن يهتم ويأخذ فيما يأخذ بالتقنية في الاعتبار..» إجمال القول في هذا الشأن هو أنّ النَّقد الأدبي يعيش حالة من «التخبط» التي قد تفضي به إلى «المتحف» مالم «يتسلحْ» الناقد بالبرمجيات ،وينفتحْ على مختلف فنون السمعي البصري وفنون التشكيل وسيمياء الألوان، والعلامات المتحركة وتقنيات «المونتاج» ومختلف عمليات التركيب و الإخراج التي تؤثث كلها للنّص الرقمي المفتوح على الاكتشاف في كل لحظة.. إضافة إلى الانفتاح على مختلف تجارب الكتابة الرقمية بمختلف اللغات، بمعنى آخر عليه النزول من برجه «العاجي» ليلامس حقائق التحولات المتسارعة التي شهدها فعل الكتابة والممارسة الإبداعية، ولا نستبعد أن يجدَ الناقد نفسه يوما ما بحاجة لأنْ يكون «مهندس برمجيات» حتى يمكنه تفكيك شفرات المتون الرقمية في هذا الشأن...فهل «الناقد» الأدبي الحالي قادرا على «التجدد/التكيف» وإعادة «رسكلة» أدواته بالتزامن مع الحراك المتسارع للأدب الرقمي؟.