استوقفتني كلمة «البلاء» وهي تقف إزاء أختها «الابتلاء» وقد جرت على ألسنة كثير من المتحدثين على أنها واحدة في المعنى، وأن تداولهما على ذلك النحو من الترادف أمر جار في أحاديث الناس، غير أنني من الذين لا يؤمنون بالترادف، ولا يرون له وجودا في اللغة العربية مطلقا ، ومن ثم حينما جئت إلى قوله تعالى : ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 – 157 . وجدت «الابتلاء» يتفرع في الآية الكريمة إلى موضوعات هي الخوف، والجوع، ونقص في الأموال، ونقص في الأنفس، ونقص في الثمرات، فالابتلاء هو الاختبار الذي يقع على الإنسان في أزمنة يحددها الله عز وجل. أما «البلاء» فهو «الموضوع» الذي يجري به الابتلاء، ومن ثم كان ما عددته الآية الكريمة هو «البلاء» الذي يصيب الإنسان في نفسه، وماله، وزرعه، وضرعه، والملفت حقا في هذه الآية التي عرضت «الابتلاء» وعدَّدت موضوعه، جاءتنا بأمر يجب التوقف عنده طويلا حتى ندرك سنة الله عز وجل في الابتلاء والبلاء، وكيف تُصَرِّفهما رحمتُه الواسعة في الأمم، والأجيال، والأزمنة ، فالله عز وجل يقول: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) وتقف كلمة «شيء» شاخصة في وجه القارئ لتشدَّه بقوة إليها ، مُعلنة أن الابتلاء سيقع في «شيء» فقط من الخوف، والجوع. وهي للتقليل، والتهوين ، فرحمة الله تُمسك بموضوع الابتلاء مسكا يأخذ في حسبانه ضعف هذا المخلوق وهوانه أمام البلاء. فلو قال الله تعالى مثلا « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، لهلك الناس جزعا، لأنهم لن يطيقوا الابتلاء، ولن يقووا على تحمل البلاء مطلقا، فكانت كلمة «شيء» في الآية الكريمة عزاء لهذا المخلوق، تقول له أن رحمة الله به وهو عاص مدبر، لا تُجري البلاء في كُلِّيته، وإنما تُجريه في القليل منه اختبارا ، وبعد ذلك تأتي كلمة (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) لتعلن أن البلاء إذا قوبل بالصبر والاحتساب، كانت جائزته البشارة ، والبشارة في أدق معانيها هي كل ما يُذهب الحزن، والألم، والضيق، هي كل ما يُنسي الذي فات وكابده الصابرون أياما، وشهورا، وسنوات. عرفوا فيها الخوف، والجوع، ونقص في الأموال، ونقص في الأنفس، ونقص في الثمرات. فهناك إذا فئة ستخرج من الابتلاء والبلاء وقد نالت وسام البشارة بصبرها. لأنها كانت تعلم أن البلاء مشروط بالابتلاء، وأن الله يريد أن يُمحِّص عباده من وراء ذلك كلِّه في إطار من الرحمة والرفق ليطهرهم. غير أن كثيرا من الناس مع الأسف الشديد يقابلون سنة الابتلاء، وشدَّة البلاء بهذا الموقف الأناني الضيق الصفيق، الذي ينم عن سوء فهم وتقدير.