لا أتصور أدبا عالميا ناجحا من دون محلية تضفي عليه قيمة مخصوصة ليكون متباينا من حيث إنّه منتوج بيئة عينية وأشخاص آخرين لهم كيان مميز وعيون مستقلة.من المفترض، من الناحية المنطقية، أن يكونوا مختلفين على عدة أصعدة: نشأة وتكوينا وثقافة ودينا ونواميس.ثم إنّ الفرادة كجوهر ثابت، تستدعي التمايز لتفادي الإمحاء في الذوات الغيرية التي لها خصوصياتها السردية والشعرية، وهويتها المعجمية أيضا. لقد ترك محمد ديب ، في الحالة الجزائرية، هالات أدبية اخترقت الحدود الإقليمية واللسانية، دون أن تفقد جمالها بتركيزها على المحلية، بل إنّ هذا الخيار هو الذي كرّس جمالياتها.الشيء ذاته ينسحب على آثار مولود فرعون وعبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار، وغيرهم من الكتاب الذين راهنوا على المحلي باستثمارات متباينة فرضتها الموضوعات والرؤى، مع وجوب التأكيد على الرؤى كعنصر قاعدي في أي عمل إبداعي يرغب في المراهنة على الذات. لا يمكننا اليوم نسيان الدار الكبيرة وريح الجنوب والزلزال وعرس بغل، كما أنّ شخصيات من نوع فورولو واللاز والأحمر ستظل قائمة في أذهاننا وفي ذاكرتنا، مهما حاولنا نسيانها. كما عاش مالك حداد غريبا في اللغة التي كتب بها، وكان يتمنى أن يتقن لغة أمّه، أن يعرف العلامات والدلالات والمضمرات وما لا تقوله الفرنسية، أو ما لا تستطيع استيعابه، كما يتجلى في رواية الانطباع الأخير. لقد قال: "اللغة الفرنسية هي سبب غربتي"، قبل أن يتوقف عن الكتابة. ومع ذلك فقد ظل قريبا من نفسه، وفي علاقة وصلية بمحيطه الخارجي وبهويته، ككاتب، وكجزائري ينتمي إلى أرض لها ذاكرتها ولونها، أرض مليئة بالأسرار وفساتين الجدّات الفقيرات وأقراطهن وخلاخيلهن، فيها الحنّاء والكمون ورائحة رمضان وشاي الجنوب ونعناع القصبة وحمص قسنطينة وفضّتها وأغاني القبائل، وثمة الأناشيد و الرقصات الترقية وأغاني الرعاة والناي والمزمار والتقاليد المختلفة التي كنّا نتّكئ عليها فيما مضى، لأنها جزء من ذاكرتنا وخيالنا وجغرافيتنا، ومن حروفنا. يبدو أنّ كلّ شيء شاخ وساخ من منظور الأدب الجديد، أو جزء كبير منه. لقد أصبح القارئ يواجه علامات أخرى ومنظورات تجعله غريبا ومستلبا، وبعيدا عن نفسه أمام اتساع أدب المؤسسات وأدب التطبيع والأدب الإباحي وأدب الجوائز الذي نقل بيئات أخرى بمنظوراتها. ماتت أغلب الأماكن والأشياء والأسماء و الأعراف في نصوصنا الحداثية، وقريبا ستختفي الأوطان، ولن نعثر لاحقا، إن استمر هذا المحو، على إنسان يشبهنا، بقدر ما نعثر على أماكن أخرى وموضوعات نجهلها وتقاليد و ثقافة لا علاقة لها بتربتنا التي لها أمارات مميزة يتعذر العثور عليها في ذاكرة العلامات الوافدة من المنجز الذي نستنسخه إملائيا. من المهمّ أن نتساءل باستمرار عن هوية إبداعاتنا، عن منطلقاتها وصيرورتها ومقاصدها، وعن فلسفة وجودها، إن كانت هناك فلسفة حقيقية نؤسس عليها في فعل الكتابة ورهاناتها، ما دامت نصوصنا تتغذى، في مجملها، بتجارب الآخرين و فلسفتهم الحياتية، رغم تضادها مع كياننا، بعيدا عن أي تقوقع قد يلحق ضررا بالإبداع المنغلق على الذات بشكل مرضي قد يسهم في تقويض الأدب بالنظر إلى محدوديته ومغالاته في رفض الآخر. لا أجد اليوم في أغلب هذه الحداثة، التي تقفز على الحلقات بنوع من العمى، مسبحة الجدّ وسجادته وعمامته، لا أجد رائحة الأطعمة وأزهار ربيعنا وحياة الجنوب والتين والزيتون وثلج القرى وصقيعها وهدوئها الفاتن ومتاعب الناس، لا المنجل ولا الصرصور ولا الدراويش ولا البرنس ولا أحاديث الحارة وأثاثها، مع أنّ ذلك الزّاد "القديم" خلق هالات أدبية مذهلة تحولت إلى أفلام ذات شأن، ومنها الأفيون والعصا لمولود معمري. ينقص نصوصنا الحالية نكهة الآذان وبؤس أجدادنا والتنورة وأماسي القرى، الأحاجي والحكايات والخرافات والحكمة. لقد فهمنا الحداثة من ذيلها، كما فهمنا النظريات مبتورة عن السياقات المنتجة لها، مع أنّنا ندرك أنّ النصوص العبقرية الخالدة أسست على التمايز و المحلية، وليس على المحاكاة الكلية والذوبان في مخيلة الآخر وفي مشاريعه النثرية والشعرية:تشيخوف،كافكا، غانتر غراس، هنري ميللر، كامو، ماركيز، دوس باسوس، لوكليزيو، همنغواي، ماركيز، بروست، باولو كويلو...كلّ هؤلاء أخذوا في الحسبان مسألة الأنا.من أكون، واعرف نفسك؟ ولذلك حملت نصوصهم نكهة محلية خاصة راهنت على البعد الذاتي والإنساني في آن واحد. وإذا كنّا نسعى، عن وعي أو عن غير وعي، إلى تجاوز الأنا، فذاك يعني، بشكل ما، أنّنا نصطنع أدبا لا يعبّر عن حقيقتنا، ولو كانت خرافية وبدائية، ولا عن أحاسيسنا وقناعاتنا وأعماقنا وكياننا. لا يمكن القفز، بشكل صادم، من الولي الصالح إلى كارل ماركس، من الكوخ الطيني إلى ناطحات السحاب، ومن البغل إلى الصاروخ، دون علاقات سببية مقنعة. ثمة حلقية ضرورية في فعل الكتابة، وللحداثة في حدّ ذاتها، بتعبير تشيرنيشيفسكي. كان على هذه الأخيرة، قبل القفز على المنجز ومحوه، أن تتمثله جيدا لتتجاوزه إلى آفاق أرحب، دون أن تفقد الصلة مع المحيط الخارجي الذي تمثله. ذلك ما طبقه الشاعر الهندي طاغور ونادى به بعد اطلاعه على الآداب والأفكار والفلسفة الغربية، ليعود إلى الحارة، وإلى الأشياء الصغيرة التي منحت شعره بعدا كونيا. لا أحد يشكك في القفزة النوعية التي عرفها أدبنا، في الرواية والقصيدة والمسرحية والقصة القصيرة، وخاصة من حيث مساءلة الأشكال النمطية التي كرّست عن طريق الحفظ والإملاء، كما تطرق إليها أدونيس في الثابت والمتحول. وثمة أيضا عبقرية في مراجعة القضايا البنائية والأسلوبية والبلاغية، وقد نجد هذا الارتقاء في أغلب التجارب الجديدة التي استفادت من الآداب العالمية، ومنالدراسات، بما في ذلك تجارب الهواة، شأنهم شأن المحترفين، وإن ظهر ذلك بدرجات متفاوتة.بيد أنّ المشكلة التي تبدو للعيان، تلك التي تطرح مستقبلا، وبحدة، هي تغييب الذات ومكوناتها وأصولها ومرجعياتها، وتغييب الصدق التاريخي، إن نحن استعرنا المصطلح المعروف في النقد الكلاسيكي. إنّنا نكاد نكتب للآخر، عن الآخر وله، وليس لنا وعنّا، قبل أن يأتي الآخر والغير الذين قد يقرؤون ما نكتبه عن واقعنا، وليس عن واقعهم بالنظر إلى أنّه جزء من حياتهم، يتأثرون به و يؤثرون فيه، حسب درجات وعيهم وقناعاتهم به، وهم يعرفونه أفضل منّا، لذلك يترجمونه وفق تجربتهم ورؤاهم للأشياء وللمحيط وللنزعات الفلسفية القائمة، يفعلون ذلك عن قناعة، وعن وعي مركب يؤهلهم لتجاوز ذواتهم ومنجزهم بحثا عن تجارب أخرى أكثر دلالة وإقناعا. إنّ هذا الآخر لا يريد أن نعرّفه بنفسه أو نندمج فيه كالغرقى.إنّه يعرف نفسه جيدا إذ يكتب عنها، ويريد معرفة الآخرين الذين يختلفون عنه، وليس أولئك الذين يفكرون كما يفكرويكتبون كما يكتب، أي أولئك الذين يطبقون فكرة بضاعتنا ردّت إلينا.هؤلاء المحاكون لا يخدمون سوى مرحلة ترتبط بالمؤسسات، وبالسياسة والشهرة العابرة، لكنّهم لا يدومون لأنّهم ليسوا هم، بل آخرين، ثم آخرين عندما تتبدّل المراحل والسياقات والجوانب النفعية، بالمفهوم الماكيفيلي الصرف،وهذه إحدى مشكلاتنا الراهنة التي تستدعي مراجعة عدة قضايا جوهرية في فعل الكتابة، ومنها: لمن نكتب وماذا نكتب وكيف؟ إلاّ أنّ ذلك لا يخصّ الأدب الجزائري وحده، بل ينسحب على جزء معتبر من الأدب العربي المعاصر الذي انغمس في"حداثة"لم يفهم جوهرها وفلسفتها ووظيفتها،ولم يستثمرها لخدمة حداثته الافتراضية التي لا تنصهر في الحداثات المستوردة حرفيا.الحداثة التي تجعله موجودا، مكمّلا للآخر ومتباينا عنه، متفتحا على الثقافات والآداب وقائما بثقافته وأدبه ومرجعياته ، وليس ظلا باهتا للوافد من الجهود الغيرية التي لها مسوّغاتها الوجودية والفكرية والموضوعاتية و الرؤيوية.المعنى يوجد في الاختلاف، وحيث لا يوجد اختلاف لا يوجد معنى. لقد لاحظنا، في السنين الأخيرة، كيف قفزت مختلف الثورات العربية على الأدب برمته، وعلى الثقافة والنخب التي لم يكن لها حضور فعلي في الشأن الاجتماعي. كان أغلب الأدب يعيش لنفسه، موضوعا لذاته، ولتجريب لم يكن ضروريا في أغلب الأحيان لأنه كان نوعا من البذخ الشكلي، وترفا ذهنيا عابثا لم يستطع التموقع ليكون فعالا، مؤثرا، تنويريا، وقريبا من المجتمعات التي كانت ترغب في رؤية مخصوصة تميزها عن الآخر. لقد وجدت هذه المجتمعات العربية نفسها أمام نصوص غريبة عنها، ولم تستطع فهمها أو التأقلم معها، وهكذا أصبح الأدب ذيلا لمختلف الحركات، وليس العكس. ربما كنا بحاجة إلى فكرة لينين القائلة: يجب تقريب الأدب من الشعب وتقريب الشعب من الأدب. غير أنّ الانفصال الواضح للأدب عن القارئ جعله يبتعد عن هذا المنجز الذي لم يعد يمثله، رغم قيمته الفنية الكبيرة، وهكذا انحسرت المقروئية تدريجيا، وبدأ الأدب يفقد بريقه وقيمته. إن المحلية حتمية، على أن تعرف كيف تخترق الحدود اللسانية والاقليمية لتكون إنسانية، وخالدة، بدل التركيز على السفاسف والحكايات الباهتة.