أولى الأدب، منذ القدم، اهتماما خاصا بالموضوعات الاجتماعية و السياسية وتناولها بطريقة فنية حيث يتداخل فيها الواقع بالخيال. كما نال صراع الإنسان مع الموت و مع الشر، بمختلف أشكاله و أنواعه، ومع الأمراض و انتشار الأوبئة والكوارث الطبيعية حصة الأسد لدى الأدباء. فهذه الظواهر تقضي على المئات بل الآلاف و ربما الملايين من البشر، وينتج عن انتشارها هلع وذعر كبيرين داخل الأوساط الاجتماعية المختلفة، وتضطر السلطة السياسية و الأمنية و الصحية إلى اتخاذ تدابير لمنع توسع و انتشار هذه المخاطر الكبيرة فتتكتم في البداية ثم تعلن عن الوباء و تحذر الساكنة منه و تدعوهم إلى اتخاذ الإجراءات الوقائية أو التوجه إلى المصحات والمستشفيات، و قد تقوم على حجر المرضى و غلق المدن في وجه الوافدين. إنه هاجس المرض و الموت الذي يلاحق الإنسان في كل مكان و زمان و يطرح لديه أسئلة ذات طابع عقائدي- ديني و فلسفي - وجودي. وفي هذا الصدد كتب الروائي الفرنسي ألبير كامي رواية تحت عنوان «الطاعون» (1947). و تجد مصادرها هذه الرواية في القراءات المختلفة للروائي و بخاصة رواية «موبي ديك» للكاتب الأمريكي «هيرمان مالفيل» التي يدور موضوعها حول ملاحقة الحوت الأبيض و ترمز هذه الملاحقة إلى مقاومة الإنسان للشر. كما تجد موضوعها في مصدر آخر المتمثل في وباء التيفوس الذي ضرب الجزائر سنتي 1941-1942. و ترتبط الرواية بسياق تاريخي عرف رواجا كبيرا للإيديولوجيات المتصلبة و غزوا جسيما للبلدان وضراوة للحروب، كما شهد الظرف بشاعة المجازر و الإبادة الجماعية و الخيانة (خيانة بعض النخب الفرنسية وتواطؤهم مع المحتل النازي). و لعل معاناة البشر أمام هذه الظواهر الجسيمة هي التي دفعت بالأدباء في العالم العربي وفي العالم الغربي إلى إفراد المؤلفات الأدبية من شعر ورواية و مسرح و غيره من الأجناس الأدبية لمثل هذه المآسي الإنسانية. فوباء الطاعون مثلا له حضور كبير في المخيال الجماعي لما ينتجه من تخريب و كوارث بشرية تستمد عناصرها من التاريخ و الميثولوجيا الإغريقية (أوديب ملكا لسوفوكليس). و يمكن أن نشير إلى مجموعة من الأدباء الغربيين الذين عالجوا الأوبئة في كتاباتهم و نذكر إلى جانب الفرنسي ألبير كامي كل من الكولومبي «غابريال قارسيا ماكيز» والبرتغالي «خوسي سارامنقو» و الألماني «طوماس مان» وغيرهم كثير. فالأدب الروائي كان من أكثر الأجناس الأدبية معالجة للأمراض و الأوبئة، و كانت رواية «الطاعون» من ابرز النصوص التي خاضت في مثل هذه الموضوعات. ففي أحد الأيام من شهر أبريل سنة 1940، يتوجه الطبيب «برنار ريو» إلى محطة القطار مرافقا لزوجته التي تريد السفر من أجل التداوي، فتصطدم رجله بجرذ ميت. و في الأيام اللاحقة يكتشف أن الجرذان قد غزت المدينة وانتشرت في شوارعها بشكل غير مسبوق و انتشر معها وباء الطاعون بشكل مخيف، لكن السلطات لم تتحرك بجدية، الأمر الذي دفع به إلى تعبئة ما يملك من أصدقاء لمواجهة الوضع و تهيئة مصحة لعلاج المصابين، لكن أمام استفحال المرض و تفشيه تقوم السلطات بغلق المدينة و عزلها من العالم، مما يخلق وضعا استثنائيا. و لعل اختيار الروائي للمكان، أي مدينة وهران و للزمان أي الأربعينيات من القرن الماضي وسياق الحرب العالمية الثانية، لم يكن اختيارا مجانيا، فالمكان يوحي بفرنسا المحتلة من قبل النازيين. و اختياره لشخصية الطبيب»برنارد ريو» و لشخصية القس «بانولو»، باعتبارهما يلعبان دورا أساسيا في الأحداث، يحمل معاني و دلالات على صراع الإنسان مع الحياة و على تعدد المواقف أمام المرض و من ثم الموت. فالمقاربة العلمية للطبيب تختلف عن المقاربة الدينية للقس. فهذا الأخير يرى في انتشار الوباء عقاب من الله و هو في ذلك يستلهم الموقف من الكتب المقدسة و من الكتابات الأدبية التي راجت في القرون الوسطى و بداية النهضة (الطوفان و قوم لوط و الأمراض التي انتشرت في مصر الفرعونية خلال نزوح بني إسرائيل). فعلى الناس، من وجهة نظر القس، التوبة والعودة إلى الطريق السوي و التضرع للخالق. أما الطبيب الذي يختلف عنه في الرؤية، فيسعى بكل ما أوتي من قوة لمعالجة الوضع رافضا كل تبرير غير علمي. و إلى جانب هاتين الشخصيتين نجد «كوطار» السفيه الذي يجد مبتغاه فيما لحق الناس من أذى، فيقوم بالتجارة غير القانونية بغية الربح السريع. و «قراند» الموظف المصاب بالمرض الذي يتعافى من المرض دون تفسير لذلك، و الصحافي «رامبير» الذي يحاول مغادرة المدينة للالتحاق بزوجته المقيمة بمدينة باريس ، دون جدوى لكنه في نهاية المطاف يصر على البقاء في المدينة لمساعدة الآخرين و إنقاذهم من هذا البلاء الذي حل بهم، و يهب مع كل من الطبيب «ريو» و «طارو» لعلاج المرضى والتخفيف عنهم الآلام الكبيرة التي يعانون منها. و تمر الأيام بكل ما تحمله من قساوة ومعاناة يموت الكثير من الأحباب و الأعزاء وينجو الكثير منهم و تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي لتترك ورائها الذكريات المؤلمة والجراح الغائرة في عمق نفسية من حضروا وعاشوا النكبة. و بالنظر للسياق التاريخي و السياسي الذي كُتبت فيه، يبدو رواية الطاعون على أنها نص رمزي بكل ما تحمله الرمزية من معنى. فالمؤلف نفسه يحدد في بداية سنة 1955 في رسالة للناقد رولان بارث البعد الذي ينبغي أن يقرأ ضمنه هذا النص باعتباره يمثل «المقاومة التي تبديها الشعوب الأوروبية في الوقوف في وجه النازية، ذلك العدو الذي لا يمكن تسميته لكن جميع الشعوب الأوروبية قد عرفته و هو «الطاعون البني» و هو مرض معدي و قاتل». فالرواية تصنف البشر في مواجهة هذا البلاء الذي ابتليت به أوروبا، منهم من استغل الوضع لجمع المال و الاغتناء، مثل الانتهازي «كوطار» ومنهم اتخذ موقف الحياد من الصراع السياسي و المأساة البشرية و وجد لهما تبريرا غيبيا، على غرار القس «بانولو»، و منهم من نظم نفسه و واجه الضرر الطبيب «ريو» و صديقيه «طارو» و«رامبير» الذين التزموا بخط مقاومة المحتل النازي لبلدهم و علاج المصابين بالطاعون. ويمكن أن نضيف للبعد السياسي البعد الأخلاقي و الميتافيزيقي الذي يميز رواية «الطاعون» التي ترمز للشر الذي يحمله كل إنسان في داخله، بسبب أن في مثل هذه الظروف التي تمر به الجماعة البشرية تبرز المواقف و الاختيارات السياسية و الأخلاقية، و تعدد بتعدد أصحابها. و هنا ندخل في صلب فلسفة كامي التي كانت مبنية على عبثية الوجود في كتاباته السابقة و تتحول مع رواية «الطاعون» إلى ضرورة التمرد بوصفه جوابا على عبثية الواقع و الوجود، مما جعله ينخرط في مقاومة الاستعمار و النظم الشمولية و الاستبدادية. و يمكن الإشارة إلى أن ألبير كامي قد مر بمرحلتين في مسيرته الأدبية: مرحلة العبث ومرحلة التمرد، ولا يمكن قراءة هذه الرواية إلا من منطلق أنها تشكل مرحلة أدبية ثانية من الكتابة لدى ألبير كامي بعد روايتيه «الغريب» و «أسطورة سيزيف» العبثيتين. ففي هذه المرحلة الثانية من مسيرته يكتب صاحب الروائي «الإنسان المتمرد» (1947) ثم «العادلون» (1949)، و يتبنى فلسفة التمرد التي رفع لوائها عاليا، لكن فلسفته لم تكن واضحة في مواجهة الأحداث، و من هنا خلافه الكبير مع جان بول سارتر الذي دافع عن الالتزام بالقضايا العادلة. و هو الأمر الذي جعل الرجلين يتخاصمان في موقفهما من الثورة الجزائرية في الخمسينيات من القرن الماضي. فكان سارتر واضحا في مساندته للثورة، بينما كان موقف كامي غامضا و متذبذبا، لكونه لم يقف موقفا صريحا مع الثورة الجزائرية إذ حاول تقريب وجهات النظر بين الوطنيين الجزائريين الذين ثاروا ضد الاحتلال و«الأقدام السوداء» الذين تشبثوا بسياسة «الجزائر فرنسية»، فخسر الطرفين معا. و يمكن القول أن نص رواية الطاعون هو استعارة أدبية عن الحرب و الشر، يطرح مسألة النزعة الإنسانية في القرن العشرين كما يكشف عن شجاعة بعض الناس و نذالة بعضهم الآخر، وهو انتصار لقيم التضامن و السخاء لكونه يعلن عن ارتقاء نحو الإنسانية و الإخاء باعتبارهما قيمتين أساسيتين في مواجهة الاستبداد و الفاشية و من هنا رمزيته.