لم يجرؤ أبدا على الاتصال بي دون وساطة لخجله الكبير، ربما اعتقد أني مقيم في أعلى جبل الأولمب حيث آلهة الإغريق القدامى، أو لأنه عانى من الإعلام الذي يمرّ قرب مناطق الظل دون أن يلتفت إلى صخب المعاني الصامتة في الهامش الذي يشكل جزء كبيرا من هذا الحطام الجغرافي الواقف مع الأثرياء وذوي الجاه، كما يفعل المسؤولون المنتشرون في المكاتب بانتظار الترقيات. حدثته هاتفيا مرات بحثا عن جزئيات تعنيني، وعرفت بعض التفاصيل التي عاشها بألم لا حد له، هناك حيث تنتهي الدنيا وتشرع جهنم في أكل التعساء وعبيد التاريخ الذين هم نحن.لقد طلب مني أن اكتب عنه ورقة للتعريف به في النادي الأدبي ليومية الجمهورية، وها إني أفعل ذلك بحب، وعن قناعة كبيرة، وببعض التقصير والتأخر. الفنان شمس الدين بلعربي من هذا الصنف المغمور، كائن شحذه الوقت والصبر وقلة ما في اليد. ولد في 24 فبراير من سنة 1987 بقرية عين تادلس، ولاية مستغانم، وعاش فقيرا كفأر الكنيسة وأزيد، راعي غنم لا شأن له في هذه المجرة الغامضة، وكان يقضي عطلته في بلديةسيرات التي لا تبعد كثيرا عن مقر الولاية. في الخامسة كان مولعا بالصور الأخاذة التي كانت تنشرها اليوميات والمجلات عن نجوم الأفلام السينمائية الخرافيين، كان يلتقطها بشغف ويعيد تشكيلها على الترابوالرمل كيفما اتفق، ودون وسائل تساعده على تجسيدها كما يرغب في ذلك، وفي السادسة اكتشف المعلمون موهبته في الرسم الذي كان يوليه أهمية خاصة، على حساب المواد الأخرى التي لم تكن تعنيه كثيرا لعدم اهتمامه بها. لقد حدد وجهته النهائية واتخذ القرار المناسب، أو غير المناسب في هذه السياقات المناوئة للجمال. اضطر، مع الوقت،للتوقف عن الدراسة رغما عنه. حدث ذلك بسبب القلة والذلة، ليجد نفسه في الشارع كآلاف الأطفال الذين لا حظّ لهم في وطن ثريّ يأكل أبناءه بلذة لا متناهية.لكنه، رغم الوضع الاجتماعي والمادي التعس، لم يتوقف عن الرسم الذي اتخذه حرفة وملجأ ومعينا: الديكور وتزيين المحلات التجارية بحثا عن بعض المال لرأب الصدع. غير أنه عرف كلّ أشكال الاستغلال والاستعباد والتهديدات عندما كان يطالب بمستحقاته، ولم يتوقف عن الذهاب إلى قاعات السينما ليشاهد اللافتات الاشهارية لأقطاب السينما التي ظلت تشده إليها، تلك التي كان يعيد رسمها على الورق في غرفة بسيطة كانت مطبخا وصالونا وغرفة نوم ذات سقف متصدع، ما أدى إلى تلف عدة رسومات جراء تسرب الأمطار إليها. كان وضعا مؤلما ذاك الذي عاشه. في ذلك الوقت المرير بدأ يشعر بتأثير العزلة، وبضرورة التخلص من الأسر الخانق الذي لازمه،وفكر في إرسال أعماله الفنية إلى الخارج بحثا عن منقذ ما، وعن فضاءات أخرى أكثر إضاءة من تلك التي تكبل قدراته المتنامية. تم ذلك عن طريق البريد، ما جعله هزؤا أمام الناس والمتابعين الذين لم يقدروا موهبته وطموحاته. لم يتلق أي رد لعدة سنين عجاف، لكنه واصل عمله بإتقان وتفان، قبل أن يتدهور وضعه الصحي ويدخل المستشفى، فقيرا ومعدما كما يليق بأبناء الهامش. بعد أعوام وصلته مراسلة مفاجئة من منتج أرجنتيني يعمل بالشراكة مع هوليوود. كان ذلك حدثا مهما في حياته الفنية، وتحولا عظيما أخرجه من حافة الجرف. قام هذا المنتج بالتعريف بأعماله الفنية في الأوساط السينمائية الغربية، وبدأ يتلقى الطلبات من المنتجين والمخرجين الأجانب الذين أولعوا بتجربته الاستثنائية التي أشادوا بها مرارا في شهادات لافتة. شرع عندها في تقديم ملصقات كثيرة لأفلام عالمية شهيرة لإبراز قدراته الابداعية التي ظلت سجينة السياقات والظرف، نذكر من هذه الأفلام: "قارا مورتال، هونور، دو نيوز، إضافة إلى الفيلم الوثائقي الشهير: شينازهيركول. عرضت كثير من أعماله في مهرجان كان السينمائي بفرنسا قبل سنين خلت، وبمهرجانات الأوسكار وسيزار، كما أعجب بمنجزه الممثل جيمي قوراد، فاتصل به شخصيا، وعندما جاء إلى الجزائر زاره وكرمه عرفنا بإبداعاته التي رآها مميزة، وذات قيمة اعتبارية مهمة في الحقل السينمائي. تمت دعوته لاحقا إلى المهرجان الدولي للسينما بالمغرب كضيف وازن له حضوره، كما وجه له دعوة ممثل هوليوودي شهير له أفلام مشتركة مع روجي مور وجان كلود فان دام، واتفقا على مشروع عمل، إضافة إلى مشاريع قادمة ينتظر تحيينها إن سمح الظرف. كما جاء وفد من السينمائيين الخبراء إلى البلد وكرمه في حفل كبير باعتباره، كما ذكر بكثير من الامحاء، " آخر فنان إفريقي ما زال يصمم ملصقات الأفلام العالمية بالطريقة التقليدية، أي عن طريق الرسم والفن التشكيلي"، وهذا امتياز مهمّ لأنه يجعله استثناء دالا. حاول شمس الدين بلعربي، كما يقول، وفي ظروف مناوئة له، نشر الثقافة الجزائرية في الأوساط الأوروبية والأمريكية، إلى أن وصل إلى تسجيل اسمه باقتدار في قاموس إي، أم، دي، بي للسينما العالمية الذي أصدرته مؤسسة بوكس أوف أمريكا، وقد تم تسجيل قصة مسيرته الشاقة باللغة العربية الفصحى، بطلب منه، في كتاب رسمي تصدره بالإنجليزية، ومن أعماله التي نالت شهرة دولية مؤكدة: لوحة الملاكم الأمريكي محمد علي كاسيس كلاي الموجودة في بيته بأمريكا، ولوحة الممثل كلين كلينتإيستود التي ضمها إلى أغراضه الشخصية كذكرى ذات مغزى ودلالة. كتبت عن الفنان شمس الدين بلعربي عدة صحف عربية، تونسية ومغربية ومصرية، وصحف عالمية مذكرة بجهده الكبير في مجاله كمصمم مميز للافتات الاشهارية الكلاسيكية، وكرمه نجوم هوليووديون مرددين اسمه بالتداول، ويمكننا التأكد من ذلك بالعودة إلى غوغل، كما قدموا شهادات مسجلة في شريط عرفانا بجهوده في رسم اللافتات الاشهارية الراقية لأفلام عبرت الحدود الإقليمية واللسانية لتصبح عالمية، ومتداولة بين المشاهدين. تعرف شمس الدين بلعربي عائلة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، هناك في أقاصي الدنيا، باعتراف شقيقه، أمّا نحن فلا نعرفه لأنه في منطقة الظل واليباب، وفي بلد يولي أهمية خاصة للجعجعة اللفظية، للعلاقات المريبة، وللبشر الفاسدين منذ فجر الخلائق. أن تصل إلى العالمية في ظروف بدائية كتلك التي عرفها هذا الفنان انطلاقا من قرية منسية، يعني أنك بذلت جهودا أسطورية مضاعفة لتحقيق ما لم يحققه الآخرون بعلاقاتهم وأموالهم ومناصبهم وتنازلاتهم المستمرة عن القيم والنواميس واللغة وبقايا الشرف، وعن ذواتهم. شمس الدين بلعربي، كما فهمت مما قاله لي، ومما كتب عنه، خرج إلى العالم من كوخ حقير في صحراء الربّ وفراغه الأعظم، ثمّ بدأ يخطو خطواته الأولى وحيدا متلعثما، ودون ظهير يتكئ عليه في أوقات المسغبة عله يصل إلى حافة الوادي حيّا قليلا ليبصر الدنيا. لقد قام بما يجب القيام به في مقامات مضادة لآماله في العثور على سند، فكان سند نفسه ومنقذها من العمى، ومن سديم عارم بخمس نجوم مظلمة. ربما كانت هذه الورقة البسيطة تنبيها، ونوعا من العرفان المتردد بما قدمه شمس الدين بلعربي، شيئا من الاحترام لهذا الشاب الزاهد الذي يستحق عناية خاصة من قبل المعنيين بالمجال الفني والسينمائي، شانه شأن عشرات الشباب التائهين في البلد منذ دائما، رغم قدراتهم ونباهتهم في فضاءات لا تبصر الذكاء ولا تعترف به، وإذا أبصرته عبست وتولت وغضت الطرف غير آبهة بشيء، كما لو أنها لا تعرف أنها تدمر أفق هؤلاء القادمين من مناطق الظل، من الوطن الكاسر، ومن النسيان البهيم الذي يتقوى بالنظر إلى طبيعة السياقات والاهتمامات التي تركز على القبح الممنهج، أكثر من تركيزها على الجمال المطهر للروح من الأدران المتراكمة عليها.