الكاتب والباحث الجزائري الراحل الطاهر بن عيشة (1925- 2016) ظاهرة حقيقية لا تتكرر، يكاد لا يوجد نظير لها ليس في الجزائر فحسب، بل في الوطن العربي: الطاهر بن عائشة لم يكتب في حياته كتابا، ولم يسع إلى ذلك؛ ولا تستطيع إلاّ أن تعترف نظير ما قدمه للتاريخ والفكر والأدب، أنه كاتب حقيقي بدون أن يؤلف في حياته كتابا واحدا، جميع النشاطات الثقافية الأساسية اضطلع بها أو يكاد، إلاّ التأليف! . هكذا ألقى العديد من المحاضرات، وأشرف على أبحاث، وكتب دراسات ومقالات عميقة، وتخصص في البحث عن المخطوطات والكتب القديمة، وأنجز حصصا ثقافية وتاريخية عديدة للإذاعة والتلفزيون الجزائري. الشاعر سليمان جوادي، وقد كان أحد أصدقائه المقرّبين ذكر أنه في مطلع الثمانينيات شرع اتحاد الكتّاب الجزائريين في تعديل قانونه الأساسي، ومن جملة التعديلات المتعلقة بالعضوية، هناك مادة تقضي بأن يكون للعضو في الاتحاد كتاب مطبوع على الأقل، وعندما لمّح أحد الأعضاء في الاتحاد، إلى الطاهر بن عيشة العضو في الاتحاد والذي لا يملك كتابا مطبوعا، اتفق الجميع على استثنائه، فما قدمه كمنجز ثقافي على جميع المستويات، يكفي لاعتباره كاتبا حقيقيا. «كنت من المقربين منه» يقول الشاعر سليمان جوادي: «ربطتني به وبأسرته علاقة متينة جدا، وكنت أعرف كثيرا من مكنوناته. الطاهر بن عيشة اليساري كان يدافع كثيرا عن الأمير عبد القادر وابن باديس، ويرى أنهما من أهم رموز الجزائر جمعته علاقة فكرية كبيرة بالمناضل الكبير فرانس فانون وتعرفا على بعضهما البعض في تونس؛ تأثر بالمؤرخ التونسي الكبير عثمان الكعاك وقرأ كل مؤلفاته» ثم يضيف: «للطاهر بن عيشة ذاكرة قوية جدا، فهو يذكر لك الصفحة والجزء من الكتاب الذي يستشهد به، ورغم ذلك فقد عانى أشهرا قبل وفاته من مرض الزهايمر». الظاهرة الثانية، أن الطاهر بن عيشة يساري التوجه والنضال، ويفتخر بذلك؛ لكنه اليسار الوطني الذي يخدم الهوية الوطنية، ويدافع عن قضايا التحرر في العالم؛ فما قدمه للإسلام كمنارة وفكر وتنوير، يكاد لم يقدمه غيره؛ هكذا أنجز حصصا تلفزيونية عديدة ومتنوعة، عن سماحة الدين الإسلامي ووهجه وانتشاره في بلدان افريقية، وفي بلدان الاتحاد السوفياتي سابقا؛ حلقات رائعة وذات أهمية تاريخية لا تقدر بثمن، شهدت أثناء عرضها في التلفزيون العمومي الجزائري، متابعة واسعة من طرف المشاهدين الجزائريين. صديقه الكاتب والإعلامي محمد بوعزارة تحدث عنه قائلا: «قال لي الطاهر بن عائشة مرة: هل أفشيك سرا إذا قلت لك بأنني أول من أقنع الطاهر وطار ليكون يساريا!! وأسأله ضاحكا: إذن أنت من أفسدت عليه إيمانه وإسلامه؟ فيرد: وهل تعتقد أن اليسار كفر وزندقة، ويضيف إن اليساري القويم الخادم للمجتمع والمتشبع بالقيم والمبادئ، أحسن من المتأسلم الدجال المتاجر بالدين». في كتابه «ملامح جزائرية: بورتريهات لشخصيات من الجزائر»، يصف الكاتب والإعلامي الخير شوار، المرحوم الطاهر بن عيشة بالمثقف الموسوعي المشاغب «عاش أكثر من تسعين سنة، مثيرا للجدل بآرائه ومواقفه الصريحة من مختلف القضايا، وهو الذي كان قريبا من التيارات السياسية دون أن ينخرط فيها، وقد اعتبر نفسه حزبا قائما بذاته «هو بمثابة ذاكرة للجزائر المعاصرة دون أن يؤلف كتابا واحدا.. إنه الشخص الذي عاش مسكونا بالجدل والنقاش»؛ ويضيف «يعد الطاهر بن عيشة، أحد أقدم الصحافيين في الجزائر وكان يحرر لوحده جريدة الثورة والعمل» لسان حال اتحاد العام للعمال الجزائريين يومها. الطاهر بن عيشة ابن قمار ولاية الوادي؛ يستحق أن تجمع مقالاته الموزعة بين العديد من الصحف والمجلات، وأبحاثه ودراساته، في كتاب أو كتب؛ وهو أقل شيء نرفعه لروحه الطاهرة، وهو الذي كرّس حياته في خدمة التاريخ والأدب والثقافة الجزائرية، بشهامة ونبل وتواضع.