أشرت في مقالات سابقة إلى أن المشهد الأدبي في الجزائر بحاجة إلى نقاد ذوي كفاءة معرفية ومنهجية مؤهلة للإحاطة بالمنجز، سرديا وبنائيا ومعجميا وأسلوبيا وموضوعاتيا، بالاستفادة من السيميائيات وعلم الدلالة والبلاغة والسيميولوجيا، ومحاولة ترسيخ ثنائية التقييم والتقييم، على شاكلة ما قام به طه حسين في خصام ونقد، وفي حديث الأربعاء. أجد أن الأكاديمي محمد الأمين بحري أحد هؤلاء الذين يبذلون جهدا استثنائيا في متابعة ما يكتب وما ينشر من سرديات متفاوتة، كما فعل قبله الناقدان مخلوف عامر وعمر بن قينة، وقبلهما محمد مصايف، أحد الأقلام المؤسسة. لقد أصبح الأستاذ بحري بمثابة مؤسسة بالنظر إلى اهتماماته السردية التي ركزت على الرواية، وعلى القصة القصيرة، بدرجة أقل. إن ركنه «نص وقضية» الذي يهتم بالنصوص الروائية الأصلية، وركن «أدب المغالطات» الذي يركز على النصوص الوهمية، يعتبران مقاربات ذات قيمة اعتبارية مختلفة عن القراءات الواصفة التي عجزت عن إمداد المنجز الأدبي بما يحتاج إليه من ملاحظات خلال سنين. لقد قدمت السيمياء والتداولية والشكلانية وعلم السرد دراسات راقية، خاصة في الصرامة المنهجية ودقة المصطلح وكيفية تفكيك الخطاب بموضوعية. مع ذلك بقيت ثنائية التقييم والتقويم على اعتبار أن المناهج الواصفة تعرض تمفصلات المعنى بشكل حيادي، دون نقد الكيفيات المنتجة لهذا المعنى، أي الطرائق والأشكال. ما يقوم به الناقد محمد الأمين بحري يتمثل في إعادة الاعتبار لهذه معزولة، وهي ضرورية كآلية تقرّب حقيقة النص من قارئه، الثنائية التي تمّ تغييبها في المناهج النقدية الجديدة لاعتبارات مفهومية أملتها طبيعة المدارس وحدودها وضوابطها. أعتبر مقارباته، الدالة على حصافة ومعرفة بمكونات الخطاب، مخرجا من المخارج الممكنة التي تضع النص في مربعه الفعلي، وذلك تأسيسا على آليات نقدية تنطلق من قراءته كمادة مستقلة عن منتجها، وهي الفكرة القديمة التي لم يستوعبها عدد كبير من الكتاب، لاعتقادهم بأن نقد النص موقف من المؤلف، ومن ثم ظهور تعليقات مناوئة للناقد، أو متحاملة، خاصة ما تعلق بمروجي: «أدب المغالطات»، كما يسميهم في مختلف قراءاته النقدية. تحيلني مقالاته، المؤثثة بزاد معرفي، إلى الكتابات النقدية التي شهدها عصر النهضة، وكانت، على حدتها أحيانا، ضرورية لإعادة النظر في ما ينشر من شعر ونثر لأنها بنت على اللغة والبلاغة والأساليب والبنى والتراكيب. منشورات الأستاذ بحري تدخل في باب التنبيه إلى الضوابط والخصوصيات التي تمّ القفز عليها في بعض التجارب الجديدة، وفي النصوص المكرسة أيضا، دون الاحتكام إلى الولاء الذي عادة ما يسفسف الفعل الابداعي ويعلي من شأن من لا شأن له، كما يحصل في تسبيق العلاقات الشخصية على قيمة الأثر الفني. ما يقوم به الناقد محمد الأمين بحري من مراجعات للكاتبة السردية جزء من مشروع مهمّ سينقد النص من البهتان، من الانحراف وحالات الإفلاس التي بدأ تتبوأ المشهد الروائي، إن لم يتم تحطيمه من قبل ما سميته: «الجماعات الأدبية المسلحة» التي أسهمت في إسكات نقاد مكرسين ذوي كفاءة عالية وتجربة أكاديمية مشهود لها على المستوى الوطني والعربي، أو تهجيرهم إلى المشرق والخليج. هذه الكتابات تؤسس على معرفة نصية، وعلى زاد مفهومي ومنهجي ومصطلحي يؤهلها للتفكيك والتقييم والتقويم لأنها عارفة بالشأن الإبداعي. إن قراءته كل هذه النصوص فعل مضن، خاصة عندما تكومه لهلة لغويا وأسلوبيا وسرديا ورؤيويا وبنائيا، ولا متعة فيها، لا فكر ولا فلسفة ولا إضافة، أو عندما لا تستطيع التمييز بين الأجناس الأدبية، ما بين الرواية والخاطرة والقصة والأقصوصة، وذاك ما يمكن الكشف عنه من خلال متابعاته لما يطبع في الجزائر. أما القراءة والتمحيص وتسجيل الملاحظات فتستدعي عملا بطوليا، وهو ما يقوم به، دون مواقف تمييزية، ودون الاهتمام بمن كتب النص، سواء كان مكرسا أو من الهواة، ذكرا أو أنثى، شيخا أو شابا. الأستاذ بحري يتعامل باحترافية مع النصوص، مغلقة، وبلا مؤلف. ما يجعله من النقاد القلائل الذين يتابعون الشأن السردي في مواجهة الكتابة الجيدة، والكتابة الوهمية أيضا. أقدّر في هذا العمل المميز جانب الموضوعية والدقة في معالجة المشكلات السردية وتشعباتها، بدء بالعمل الأدبي الذي لا يراجع نفسه قبل النشر والتسويق، ولا يستشير المتخصصين في السرد والمسائل اللغوية لمراجعة ما يكتب، مرورا بالبحث عن لقب الروائي للظهور في المعارض والصحف، وصولا إلى دور النشر التي غدت مؤسسات تجارية لا تفكر في الاحتكام إلى لجان القراءة لإبداء الرأي في ما يصل إليها من بضاعة ليست مؤهلة للنشر، لكنها غزت سوق الكتاب، مع ضرورة الاشارة إلى الاستثناءات القليلة التي تسبق القيمة الأدبية على المنفعة. الدكتور الأمين بحري لا يتحامل على الذين يسمون أنفسهم روائيين بمجرد وجود كلمة رواية على غلاف المطبوعة التي يتم إصدارها بدفع مليونين أو ثلاثة، كما أشار إلى ذلك، ولو كان المتن عبارة عن وعظ وخواطر وموضوعات إنشائية مشدودة بخيط واهن، مع كثرة الأخطاء النحوية والاملائية والصرفية وهشاشة الأساليب. إنه يعتمد على النظريات والمرجعيات العالمية، وعلى المصطلح النقدي والمعرفة السردية بحكم تخصصه وقراءاته واهتمامه الاستثنائي بالكتاب، إضافة إلى مداركه الفنية التي شحذتها التجربة، وهناك نضج تصوراته للفعل السردي كوعي مركب بتقنيات ضرورية للكتابة، التقنيات كحتمية لا يمكن تجاوزها والاعتقاد بأن ذلك يدخل في باب التجاوز والتحديث، قبل معرفة القواعد الأولية. مرجعية إن لم يتدخل النقد البناء للكشف عن الكتابة التبسيطية وإنقاذ السرد من التدليس. لقد غدت الرواية شبيهة بحصان طروادة، وعلى الدراسات المتخصصة التنبيه إلى الخلل، وذاك ما يقوم به الأستاذ محمد الأمين بحري لملء فراغ عظيم تسبب فيه انسحاب النقاد وتبوأ العلاقات وأخطاء الاعلام وجنون دور النشر التي لا تولي أهمية للمشكلة. هذه النصوص، على ضعفها الكبير، اخترقت الجامعة وأصبحت مصادر للبحث العلمي، وموضوعات لرسائل الماستر وأطاريح الدكتورة في ظل الوهن الحاصل في المنظومة الجامعية والبحثية، وعلينا أن نطرح عدة أسئلة عما سيكونه المستقبل عندما تنتشر هذه النماذج بحدة. من لم يقرأ رواية واحدة طوال حياته، وهو ما أشار إليه الناقد، لن يعرف مقوّمات هذا الجنس الأدبي المخصوص، ومن لم يتعلم أبسط قواعد اللغة يتعذر عليه تعليم الآخرين، ومن لم يطلع على أبسط النظريات النقدية لن يكتب شيئا الرواية بالمواصفات المتفق عليها. هناك هرولة كبيرة نحو النشر. لذلك أطلق الناقد محمد الأمين بحري على هذه التجارب الاستعجالية: الأدب الوهمي، والأدب التحفيزي، وأدب المغالطات، بانتظار أن يجد معاونين يهتمون بتثمين الجيد وتنبيه الغث إلى فجواته، وهي كثيرة وصادمة. أذكر أني قلت للأستاذ بحري، بمناسبة ملتقى الفيلم العربي: «من الصعب أن تكون ناقدا في هذه السياقات التاريخية. لقد وصل الناس إلى مرحلة الألوهية وأصبحت وجهة النظر تهمة ، الفساد الأدبي بلغ أوجه، وهو بحاجة إلى نقاد في صحة جيدة، أقوياء جسديا ونفسيا وعلميا لمواجهة موجة التضليل التي تعصف بالسرد، دون أن تجد مقاومة من المتخصصين المؤهلين للكشف عن الخلل، أو الإشادة بالنصوص الجيدة التي تشهد مرحلة متقدمة من النضج. هذه القراءات حتمية حتى لا تضيع الجهود الكبيرة في أسواق الرثاث، علينا أن نستمع إلى صوت النقد، إلى ما يكتبه الأستاذ بحري، لأنه لا يهتم بالأشخاص، قدر اهتمامه بالمنجز، لتثمينه أو لتنبيهه، وهو كفء، ومؤهل لذلك مشكورا على جهده، مهما اختلفنا معه.